الوضع المظلم
السبت ٣٠ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
لماذا أطلقت النار عليهم؟
حسان الأسود

يبدو الخطاب أحياناً استهلالاً للفعل، وهو في الحقيقة يؤسس له، فاللغة لا تعبّر عن الواقع فقط، بل وتصنعه أيضاً، ولا يتوقف أثرها عند الحبال الصوتية والألسن والشفاه، ولا يحدّها قُصرُ مدى الحروف وعددها، ولا يُنقصُ من قدرها ضيقُ أفقِ مستخدميها، لأنها تتحوّل إلى أعاصير وبراكين وزلازل عندما تنزل إلى الشارع، سواءٌ أكان في اتجاه التعبير عن غضب شعبي جماهيري عارم ساعٍ لإحداث تغيير سياسي ما، أم في مجال الاستثمار السياسي لهذا الغضب بهدف حرفه عن بوصلته الحقّة، خاصّة في ظل غياب الضمير الإنساني الذي يشهده العالم بكثافة، وفي ظلّ انحطاط القيم التي تحكم مسارات العلاقات بين البشر في هذا العصر المليء بالحداثة والتخلّف في آن معاً.

لا يفوقُ الخطيئةَ فداحة وإثماً أحياناً سوى استسهالُ تبريرها وتلوينها، فضرب الصحفي الإسباني في إسطنبول جريمة يُعاقب عليها القانون، لكنّ الضمير الجمعي لغالبية شعبيّة متنامية باضطراد يقبلها، ويبررها، ويجمّلُها، إن كان الفعل قد وقع تحت بُند الاشتباه بأنّ المضروب سوريّ من مادّة العنصرية المنفلتة من كل لجام! وإطلاق النار على يافعين في ساحة مدرسة في إحدى البلدات اللبنانية جريمة أيضاً، ويعاقب عليها القانون، لكنّها تغدو فعلاً عاديّاً، بل واجباً حتمياً يفرضه بندُ الاستعلاء من مادّة الرُقيّ الفينيقي على كلّ من هو من غير هذا المُحتدّ الموغل في القدم والعراقة والسمو!

يؤسسُ الخطابُ للواقع، وخطابُ السياسة يصنع الواقع، يحوّلُ السوريّ من مُهاجرٍ يتفيّأ ظلّ أخوته الأنصار إلى إبليس اللعين، طريد رحمة الله وغُفرانه، مُستوجب العذاب الأبديّ في قعر سقر. يبني الخطابُ الجدران، يرفعُ الأسوار، يمدُّ الأسلاك الشائكة، يحفرُ الخنادق، يُشرعُ الحراب ويسنّ السيوف والخناجر، يُغلقُ المقابر في وجه الموتى، فهذا التراب بات الآن عزيزاً كالكرامة والضمير والوجدان، هذا الترابُ لا يليقُ بكلّ الجثامين، فحتى في الموتِ ثمّة مفاضلةٌ بين إنسانٍ عاديّ وآخر سوري! يؤسس الخطابُ للفعل، ينفخُ في أشرعة التهجير، يملأ البراميل بالمتفجرات والمسامير وبقايا الحديد الصدئ من علب السردين وشرفٍ ضائع في أحذية العسكر، يوجّه الخطابُ بوصلة قوارب تُجّار البشر ويفتحُ للأسماك قائمة اللحم السوري، شهيّاً، كثيفاً، نيئاً، طرياً، خائفاً، مرعوباً وغير مأسوفٍ عليه.

قبل نصف قرنٍ وأزيَدُ ربّما، قال مظفّر النواب صارخاً: "ومرّت جنازةُ طفلٍ على حُلمي بالعشيّ، يُرادُ بها ظاهرَ الشامِ، فقلتُ أثانيةً كربلاءُ... فقالوا من اللاجئينَ! كفرتُ، وهل ثمّ أرضٌ تُسمّى لجوءً لنُدفن فيها، وهل في التراب كذلك مقبرةٌ أغنياءٌ.. ومقبرةٌ فقراءُ!" والتاريخ يدور الآن دورته، يُعيدُ رسم انحناءات الزمن، يجرّد سيوف الانتقام، يمسحُ الدماء عن الخناجر بعمائم الطائفيّة، ينتقمُ من أطفال السوريّ الأول، السوريّ الجدّ، السوريّ المُثقل بغبار المعارك منذ فجر التكوين، السوريّ الثابت على النطعِ القابع تحت حدّ السيفِ، القابض على جمر سوريّته. وقبل قرن ونصف أو أقلّ قليلاً، قال كارل ماركس: "إنّ التاريخَ يُعيدُ نفسه مرّتين، مرّة على شكل مأساة، ومرّة على شكل مهزلة، وما نراهُ الآن هو المهزلة!" ألا ليت ماركس يعودُ يوماً لأخبره بما فعل التاريخُ بنا، ولأهمس بأذنه كيف أقصانا من الجغرافيا، وأخرجنا من التصنيف البشري، فباتت لافتات الشوارع تمنع علينا شراء الخبز لأنّه مُخصص للّبناني! ولأشرح له كيف تجبرنا الحماقة على إعطاء التركيّ سيجارة أو نموت دونها صلياً بالرصاص أو ذبحاً بالسكاكين!

إنّه جرحنا النازف، دمنا الراعف، مُقلُ عيوننا الحائرة، أنفاسنا المتقطّعة، جلودنا الممزّقة وأقدمنا العارية التي شقّت مجاهيل الغابات ومقفرة الصحاري، إنّه قارب العمر حيثُ يضيعُ بحثاً عن شُطآن يرسو بها، فإذا هو في رحلة تلو أخرى وفي تيه تلو تيه! نحن المعّذبين في الأرض، نحن الواقفين على خطوط النار كما وصف محمود درويش أخوتَنا الفلسطينيينَ ذات قصيدة، نعلن أننّا بشر مثلكم، يأكلنا الحنين لسيباطة أمام منازلنا المهجورة والمُحتلّة والمدّمرة، يأكلنا العثُّ مع سجّادنا الذي تركناه في السقائف خلفنا، يُدمينا الاندماجُ في مجتمعات لا تقبلنا، يحيينا الأملُ بانبلاج الصبح كالعنقاء من تحت الرماد! نحن مثلكم، ولدنا من أبٍ وأمّ، ولبعضنا أخوة وأخوات، ولبعضنا أبناءٌ نحبّهم، ولنا أرغفةٌ على صاجِ النار تخبزها الجدّاتُ، ولنا قمرٌ في ليالي الصيف يسألُ عنّا، وكان لنا دفاتر للذكريات، ورسائل نحتفظ بها في صناديق عتيقة، وأمهاتنا مثل أمّهاتكم يحتفظن بإبر الخياطة وبالخيطان في علب الحلوى والشوكولا، نحن بأصابع عشرة نعدّها يومياً، نتفقّد عليها الأحبّة والأصدقاء والجيران، ويقضمُ منّا القهرُ قطعة مع فنجان القهوة كلّ صباح عندما نستذكر الشهداء الذين عجزنا عن حراستهم من هواة الرثاء، نحن بأفئدة مثلكم يخيط رتوقَها الحنينُ إلى وردٍ أقلّ في ديوان شعرٍ درويش!

لمَ أطلقت النار علينا يا هذا، نحن الآن هم، نحن أولئك المجهولين، فاقدي الملامح، نحن الأرقام التي تحفلُ بها تقارير لجان التحقيق وأعمدة الصحف، نحن الآن هنا نقطع هذا السِفر من أوّل القيامة على درب الجُلجلة، نحمل الصليب كما حمله جدّنا السوريّ الأول، نفدي خطايا البشريّة بدمائنا، نسقيها للعطشى، ونطعم الجوعى من خبز لحمنا! لمَ رميتنا في الجبّ مع يوسف، لمَ أطلقت النار علينا، عليهم، هل ظننتنا سنخاف؟ لا، لن نخاف بعد اليوم، فنحن هنا لنبقى ولنرجع، حتى لو أطلق كل العالم النار علينا.

 

ليفانت - حسان الأسود

كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!