-
للوطنيّة الكرديّة حسابات معقّدة
رُبما عليّنا أن نقتنع أنّ السوريين جميعاً انقلبوا على أنفسهم وشعاراتهم مرّات متتالية، وإن أردوا اليّوم الخروج من ذاك النفق، بات لِزاماً على الجميع تصحيح كل الأخطاء دفعة واحدة، والتّي أغرقتنا جميعاً، وإن أردنا التقييم بغية تقويم المسار المتعرّج للعلاقات البينية للمكونات السورية، فما على الجميع سوى تصويب ذاك الخطّ الأعوج، الذي مايزال مستمرّاً منذ نصف قرن.
ففي الطروحات المتتالية لحلّ القضية الكُردية في سوريا، كقضية وطنية عامة، وجزء من الهمّ السوري الوطني، وإن كانت الحكومات المتعاقبة على سدّة الحكم في دمشق لم تقدّم سوى الحلول الأمنية، فإنّه من المؤسف أن تكون حلول المعارضة المتمثّلة بالمواطنة، لكنها مفخخة بحلول شبيهة لسابقاتها الأمنية، إذ ماتزال عقلية أولوياتهم بطرح الحل النهائي مسيطرة عليهم، خاصة وأنّ الأقنعة أصبحت شفافة جداً إلى حدٍ يُستحال معه إخفاء النوايا. بالمقابل لم يُفكر الكُرد كثيراً قبل حسم موقفهم إلى جانب المعارضة السورية، التّي ماتزال تفكر في كيفية تقويض وترويض الكُرد وقضيتهم القومية والسورية.
ثمة أصواتٌ تفعل المستحيل لوسم المشتركين بالحوار الكُردي_الكُردي، بمصطلحات وأفكار كانت من بين الأسباب الموجِبة للسوريين، عامة، للتظاهر ورفض الرتم المُعاش. الاستغراب الأعمق يكمن في كيفية النظر للوقائع الحاليّة بعقلية تعود للزمن القدّيم، حيث المحق والسحق والإلغاء. فمازلنا ككُرد نبحث بين ثنايا المعارضة السورية، والسوريين عامة، من يدعو إلى نقاش هادئ للخروج بحلّ عادل، يُرضي مخاوفهم، ويُشبع تعطّشنا القومي والشعور للأمن والعيش المشترك دون بروز دكتاتوريات جديدة، أو ديناصورات الفساد والإفساد.
لا مناص من مناصبة السوريين الودّ والشراكة، بيد أنّ الفترة الماضية والتّي شهدت بضع جولات من الحوار بين المجلس الكُردي والاتحاد الديمقراطي، شهد عواصفَ من التحليلات والتدخلات، والأكثر بؤساً أنّها اشتركت بين عموم السوريين والكُرد أنفسهم. إذ حتّى أطرافٌ كُردية راحت تعلن عن رفضها عدّم حضورها للحوارات، وأطرافٌ سوريا نعتت الحوارات بالإقصائيّة، فتاهت البوصلة ما بين اعتراضهم القائم على نيّتهم الحضور أم رفض الحوار من أساسه.
في السياق نفسه، لمّ يخفَ عن الطروحات ازدواجية المعايير، حيث يبدو أنّ المثقف السوري مايزال يمرّ بمحنة لا يتمكّن الخروج منها، والمبدعون الكتّاب بعلاقتهم مع أحزابهم والمعارضة لا يرغبون بالابتعاد عن بلوغ السلطة مهما كلّف الثمن، إذ من يُشكّك أو يُلمّح “لنقصان” وطنية الكُرد نتيجة الحوارات، ما عليّه سوى تذكّر المناطق الخاضعة للمعارضة السورية، ومناهجها التدريسية التّي تخلو من ذكر دور الكُرد في سوريا منذ الانتداب الفرنسي وحتّى اليّوم، أليس من الوطنية أن تُذكر المكونات السورية في المناهج المدّرسية؟
الهم السوري بجميع مكوناته كبير جداً، وللكُرد شيء إضافيّ، فالهوية السورية نفسها، ككيان وجسم، ما عادت موجودة بصيغتها الطبيعية، إذ إنّ ما يحصل في عفرين ورأس العين وتل أبيض، يدفعنا للسؤال عن مفهوم الوطنية في عمليات النهب والقتل على الهوية للكُرد، وبأيادي السوريين، عدا عن إلغاء اللغة الكُردية في مدارس عفرين، وإحلال اللغة التركية عوضاً عنها، وإن كانت التركية من اللغات التّي ستحظى بمكانة قيّمة في سوريا الغد، لكن سؤال الوطنية السورية يتجسّد في أعلى تجلياته عبر منع اللغة الكُردية، والآشورية كلغات وطنية أصيلة في المناهج المطبقة في عفرين وإدلب، وتعويضها بلغة أجنبية تُركية، فأصبحت الهوية الجمعية مُبتلعة تماماً، ولم يبقَ منها إلا الاسم فحسب.
القصة لم تبدأ من قضية الحوارات، فالجانب المهم من الموضوع، هو الطرف الأكثر تغييباً وتكثيفاً للجهد والوقت للحفاظ عليه مغيّباً مهمّشاً، جانبَ لزوم الخروج برؤية مشتركة، خاصة أنّ الشعب السوري ما عاد واحداً، كما كان الشعار الأول في أول تظاهرة “واحد واحد الشعب السوري واحد”، وهو ما يدفع بالأجيال الكُردية الجديدة للابتعاد عن المفهوم الوطني أكثر. فالقضية تجاوزت سوء التفاهم المتبادل بين القوميات والمكونات السورية، وتحديداً (الكُرد والعرب)، على مستوى النخب والقيادات السياسية والحزبية، ما ينعكس سلباً، وبعمق، على التناول الشعبي لقضية خارج سياقات الطرح العربي للحلّ السوري.
النقطة المضحكة في كل “التنمّر” الذي تشهده المواجهة الناعمة والبسيطة والمضمرة بين الطرف الكُردي ونظيره العربي سواء على صعيد الشرائح المتحالفة في أروقة المعارضة، أو حتّى للمنسجمين مع دمشق وحلولها الجزئية والشكلية للقضية الكُردية، الكُل يدركون جيداً حجم “ركض” الجميع وراء الأمريكي لحلّ قضيتهم، وأنّ العالم كُلّه يرى بوضوح أن لا حلّ لشلال الدّم السوري دون المزاج الأمريكي. بمعنى آخر، كُلهم يركضون ويرغبون بالحضن الأمريكي، وهو مُباحٌ وحلالٌ عليهم ولهم ولطروحاتهم، بيد أنّ المعضلة بالنسبة لهم هي أن يظفر الكُردي بالاهتمام الأمريكي أولاً، وبغضّ النظر عن النوايا الأمريكية، تقول شرائح متعددة من النُخب العربية السياسية والفكرية، إنّ أمريكا تسعى لاستغلال المنطقة الكُردية لمصالحها. ولكن أليست مناطق نفوذ المعارضة السورية هي الوحيدة في كل سوريا التي لا وجود للنظام السوري ومؤسساته فيها؟. لذا ثمة سؤال مُركب، لماذا لا تعتمد أمريكيا على تلك المنطقة؟، أو لو لجأت أمريكا إلى هنّاك هل سنجد الرفض عيّنه؟.
عشرة أعوام لم تسعَ المعارضة السورية لطرح مشروع وطني جامع لمكونات سوريا، وما إن اقترب الحوار من العمق حتّى استشعر الآخرون بخطورة الكُردي، فتبلورت مشاريعٌ جديدة، كالفدرالية الثقافية والتّي تؤكد على وجود شعب يعيش على أرضه، وهي المعضلة التي ما كانت النُخب السورية تتمكّن من النظر إليها خارج سياقات فلسفاتها الخاصة، ومن المهم جداً ربط حلّ القضية الكُردية بالهم والقضية والمستقبل السوري المشترك، بيد أنّ التأجيل والرفض في خوض حيثيات الموضوع، أشبه بفرض تابوهات حوارية، وهي المشكلة عينها تتكرر منذ قرابة نصف قرن.
لا يُمكن للكُرد في سوريا، وبل لا يجوز، أن يُقصوا باقي المكونات السورية؛ إذ لا قائمة لأيّ مشروع مستقبلي دون المكونات جميعها (العربية والسريانية الآشورية)، أوخارج سياق الاتفاق الوطني السوري. بيد أنّ سؤالين جوهريين، أحداهما عام للسوريين، ألم تتسبب عقليات عدّم الاهتمام العميق بقضايا المكونات والشرائح السورية، بدفع الكُرد صوب الاستجابة للطلب الأمريكي؟
والثاني، خاصٌ بالكورد، من سيعوّض الأجيال التّي راحت تهرم بعد ثمانية أعوام من القطيعة الكُردية_الكُردية؟، وهل بقيت نظرة الشارع الكُردي للحوارات الجارية حاليّاً، هيَّ النظرة ذاتها التّي رافقت الحوارات والاتفاقيات السابقة؟ بكل تأكيد، لا، فالناسُ تبحث عن حياتها أولاً.
وكما أُثبت فشل نظرية الخط الثالث الذي تبنّته الإدارة الذاتية، فإنّ الرهان على تشويه الكُرد لدخولهم في حوارات برعاية أمريكية، لن يطالها سوى الفشل على مُستويين، الأول: العمق الوطني للكُرد السوريين ثابت وواضح. والثاني: لا حلول جزئية للقضية السورية ومن ضمنها الكُردية، بيد أنّ دمج مجموعة الحلول في بوتقة واحدة رُبما يكون الأنجع.
ليفانت – شفان إبراهيم
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!