-
في ميزانِ الاستبدادِ السياسيّ
ليست الحربُ السوريةُ قضيةَ نزاعٍ طائفي، إنّما يُعتبرُ موضوع الطائفية إحدى خلفيّاتها، وهي في جوهرها قضية استبدادِ جهاتٍ تهيمنُ على السلطة وتحتكرها، ضاربةً عرضَ الحائط بكلّ القيمِ والأعرافِ الإنسانية والمواثيق الدولية، وجوهرُ قضيّة الاستبداد هو انتهاكُ حرياتِ الإنسان وحقوقه، فرداً أو فئة سكانية، سواء كانت تلك الفئة تمثّل بعض الأقليات أو الأكثرية، ولا شكّ أنّ جميعَ السوريين نالوا نصيبهم الوافر من الاستبدادِ والقمع، لكنّ الطائفةَ العلوية كانت الضحيةَ الأكبر لهذا النوع من الاستعبادِ السياسي، والذي عزّز سطوته هاجسُ الخوفِ من الآخر. الاستبدادِ
رغم أنّه عند تسلّمِ (حافظ الأسد) سدّة الحكم، أصبح أكثر من ثمانين بالمائة من المناصبِ القيادية في الدولةِ والجيشِ والمخابرات في أيدي شخصياتٍ علويةٍ، من أشهرها (سرايا الدفاع) بزعامةِ رفعت الأسد، و(سرايا الصراع) بزعامةِ عدنان الأسد، و(القوات الخاصة) بزعامةِ علي حيدر، و(المخابرات الداخلية) بزعامةِ محمد ناصيف، و(أمن القوى الجوية) بزعامةِ محمد الخولي.
ولا شكّ أنّ الأرضيةَ الطائفية التي تركتْ آثارها في أحداث 1979-1982 راكمتِ الخوفَ مجدداً من استهدافِ هذه الطائفةِ المنغلقةِ على نفسها، حيث أغرقَ النظامُ العلويين بدماءِ السوريين، ليخلقَ جداراً عازلاً بينهم وبين بقيّةِ مكوناتِ الشعبِ السوري، ولتستحيلَ معه إمكانية انفصالهم عن هذه المنظومةِ الفاشية، وبالطبع المحاولاتُ الفردية للخروجِ عنها مغامرةٌ أخلاقيةٌ كبيرة، فشلها محتوم، فكيف يمكن في عصرِ الفردِ العالمي، توقّعُ مواقفَ سياسيةٍ ووطنيةٍ وتاريخيةٍ كبيرة متّفق عليها من قبل مئات الآلاف من الأنفسِ المسكونةِ بأشباحِ الرّعبِ من الإبادةِ الجماعيةِ، خاصة بعد الارتكابات الشنيعةِبحقّهم في بدايةِ الحرب السورية، والتي من الواضح أنّها كانت موجهةً لزجّ صفوفهم إلى جانب النظام، الذي يبدو (بنظرهم) أقل سوءاً من الطرف الآخر، الآخر الذي نالَ بدوره نصيَبه الوافر من القتلِ والتعذيبِ والتهجير، فالمجتمعُ السوري لم يعرفْ منذ وقتٍ طويل ما يمكن وصفه بالسلامِ الطائفي أو السلامِ الديني، ويعني ذلك من الناحيةِ العمليةِ التنفيذية أنّ الخطواتِ الجادّةَ الأولى في هذا الاتجاه، يجب أن تتضمّنَ اتخاذ ما يكفي من المواقفِ والإجراءاتِ لإعادة الثقةِ المفتقدة والوصول بها إلى مستوى، يمكن معه لسائرِ القوى والاتجاهات أنْ تجدَ طريقها من جديدٍ إلى أرضيةٍ مشتركةٍ لأوضاعٍ سياسيةٍ مبشّرة.
والمعروف أنّ العلويين قد تعرضوا للرفضِ من قبل الشيعةِ والسنّةِ على حدّ سواء، الأمر الذي ساهم في عزلتهم على امتدادِ قرونٍ طويلةٍ، ولا يعتدّ معظمُ العلويين بمرجعياتٍ دينيةٍ معينة، حيث إنّ المنظومةَ الاستبدادية قامتْ بتفتيتِ أية مرجعياتٍ قائمة أو ممكنة، وتحويلِ رجالِ الدين إلى رجالِ زكاةٍ وحسبة، من المتقاعدين من الخدمةِ العسكرية، بدلاً عن العلماء الذين كانوا ينتشرون في جبالِ الساحلِ السوري، وقام النظامُ باستغلالِ جميعِ الطوائف بما فيها طائفته التي من المفترض أنّه ينتمي إليها، وحوّلها إلى جدارٍ منيعٍ لحمايةِ تركيبته الأمنيةِ العصيّةِ على التفكك، فحرصَ على تجهيلها وإفقارها، ودفعها إلى الانخراطِ في الجيش السوري، والأهم تخويفها المستمر من خطرِ الاضطهادِ الذي ينتظرها إذا ما زال هو عن الحكم، واخترعَ من أجل ذلك الكثيرَ من الأساطير عن معاناتها تاريخياً، والتي يُشكّ في أمرِ صحةِ الكثير منها. الاستبدادِ
ولو كان النظامُ يسعى لإفادةِ العلويين، لكان سعى لتعزيزِ اللامركزيةِ الإدارية في سوريا، والمستفيد الأكبر منها هم الأقليات المهمشة، كما أنّه لم يحقّقْ أي شيء على صعيدِ العلمانيةِ والديمقراطية، بعدما حوّل سوريا إلى أفغانستان أخرى، وعلى صعيدِ التنميةِ الاقتصاديةِ كانت مناطقُ العلويين الأكثر فقراً وتهميشاً، حيث لم يعمل على تنميتها وتعزيزِ صلاحياتها الإدارية، ولم يكُ في الحقيقةِ سوى استمرارٍ للنظامِ الدمشقيّ الذي أُسس في أربعيناتِ القرنِ العشرين، بعدما سعى لتكديسِ السلطة والثروة والنفوذ في العاصمة.
ورغم أنّ النظامَ استقدم العلويين من الساحلِ وأسكنهم دمشق وغيرها من المدن الداخلية، في مناطقَ عشوائيةٍ تفتقرُ لأدنى مقومات الحياةِ والمدنيّة، لكن ما هي الفائدة من ذلك؟ بينما لم يرَ أيّ مشكلةٍ في توريطِ طائفته بحربٍ جنونيةٍ بامتياز، ودون أيّ مجالٍ للتراجع، وإذا ما فصلنا مسألةَ العنفِ السياسيّ عن العنفِ الطائفيّ والعنفِ الاجتماعيّ الأهلي، فيمكننا القول إنّ الطائفةَ العلويةَ انتقلت من مرحلةِ الاستقطابِ الطائفي إلى حالةٍ مخيفةٍ من جرائمَ ومجازر كبرى ذهبَ ضحيتُها آلاف المدنيين الأبرياء، فضلاً عن حالاتِ العنفِ الطائفيّ الفردية التي ارتكبها أفراد منفلتون من عقالهم، كما حدثَ في بانياس وحمص وريف حماة، لذا فإنّ تصنيفَ النظامِ على أنّه علويّ هو خطأ تاريخيّ وسياسيّ وأخلاقي كبير، فهو مدعوم من العلويين كما كثير من السنّة من الفئاتِ المستفيدةِ أو الصامتة، لكنه ليس علوياً ولا علاقة له بالعلويين، فهو في النتيجةِ منظومةٌ معقدةٌ وصلبةٌ منضويةٌ تحت سلطةٍ مافيوية، والثمن المباشر هم الأقليات ضحايا التطرفِ والاستبداد معاً.
مع هذا انتمى الكثيرُ من العلويين لبعضِ الأحزابِ والحركاتِ المعارضةِ السورية، فتمَّ التنكيلُ بهم ووُضعوا في السجونِ لسنواتٍ طويلة، وليس أدلّ على ذلك من حالةِ الدكتور (عبد العزيز الخيّر)، الذي زُجّ في السجنِ بتهمةِ الانضمامِ إلى رابطةِ العملِ الشيوعي، ليخرجَ ويواصلَ عمله المعارض، وليعتقله النظامُ مجدداً عام 2012، وما يزال مصيره مجهولاً حتى اللحظة، ومنهم أيضاً الدكتور (عارف دليلة) عميد كليةِ الاقتصاد في دمشق، وهو الباحثُ والمعارضُ السوري الذي انتقدَ التحالفَ ما بين الفسادِ والحكمِ في سوريا، فكان نصيبه عشر سنواتٍ من السجن، أكثر من جميع زملائه من بقيةِ الطوائفِ من الذين رفعوا الشعارات ذاتها وشاركوا في النشاطاتِ ذاتها، وفي المقابل ظهرتْ فئةٌ من العلويين، كانت تعملُ في منطقةٍ وسطى ما بين المعارضةِ والنظامِ طيلة العقود الماضية، إلا أنّها صُدمتْ باحتمالِ زوالِ النظامِ والامتيازاتِ التي حصلتْ عليها، فعملتْ على محاربةِ الانتفاضةِ السورية في بدايتها، وانحدرتْ إلى مستوياتٍ مذهبيةٍ وطائفيةٍ مرعبة، لتبريرِ القتلِ والمجازر، فيما عُرف لاحقاً باسم (الشبيحة)، وبعيداً عن هاتين الفئتين بقي الفقراءُ الفئةَ الأكثر تضرراً من كلّ ما حصل، وهي الوحيدة التي دفعتْ فاتورةَ الحربِ غالياً، وما زالت بالطبع. الاستبدادِ
والسؤالُ الذي يطرحُ نفسه وبقوّةٍ: ما المطلوب من العلويين أن يفعلوه بينما يرزحون تحت قبضةٍ أمنيةٍ خانقة، تفوق ما هو موجود في أيّ مجتمعٍ آخر؟ ومعلوم أنّ النظامَ السوري يبطشُ بمعارضيه العلويين على نحو يفوقُ بطشه ببقيةِ المعارضين، وكان قبل الأحداثِ السورية يتساهلُ ويتسامحُ مع الإرهابيين الوهابيين، ولكنه لا يسامح أبداً أيّ علويّ يُبدي نقداً للنظام، الذي حاول إكسابَ الانتفاضة السورية صبغة الطائفية منذ البداية، وأخذ إعلامه الرسمي وغير الرسمي يبثّ خطاباً طائفياً في محاولةٍ حثيثةٍ لدفعِ المحتجين للردّ بصورةٍ طائفية، كذلك لإيهامِ العلويين أنّهم المستهدفون الوحيدون من كلّ هذا الحراكِ الشعبي، وأثناء الأحداث السورية كان خوفُ العلويين وتوجّسهم من الآخر يضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما دعم النظام الحاكم الذي سيجرّهم إلى الهاويةِ لا محالة، أو تركه ينهار وهذا سيشكل خطراً وجودياً مباشراً سيدفعهم إلى أعالي الجبال وربما إلى دوّامةِ النسيان. الاستبدادِ
ليفانت – عبير نصر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!