الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
ضربات إنهاك أم حرب بين الحروب؟
أحمد رحال

خلال كامل سنوات الصراع والحرب على الجغرافية السورية، لم تحظَ عملية عسكرية بنقاشات ولقاءات وخلافات كالعملية العسكرية التي أعلن عنها الرئيس أردوغان نهاية شهر أيار/ مايو الماضي، وكل الجهود الدبلوماسية للخارجية التركية واللقاءات المتتالية مع وزيري خارجية روسيا وإيران لم تفضِ إلى نتيجة إيجابية باستثاء تصريحات مجاملة لا تصرف بالحقل العسكري تتحدث عن تفهم إيراني وروسي لهواجس الأمن القومي التركي، ترافقت مع تصريحات عواصم غربية تعلن رفضاً قاطعاً لأي عملية عسكرية تركية تهدد حالة شبه الهدنة المفروضة وتعيد فتح الجبهات في الساحات السورية، وتخل بمناطق النفوذ المتوافق عليها بين جيوش خمس دول تتواجد على الأرض السورية.

الرفض الأمريكي لأي عملية عسكرية تركية يأتي انسجاماً مع تعهدات قطعت بحماية الحليف الكوردي قسد "قوات سوريا الديموقراطية"، لضمان استمرار مشاركته بمحاربة إرهاب "داعش"، واستمرار تحقيق أهداف الوجود الأمريكي في منطقة هامة تصنف على أنها السلة الاقتصادية لسوريا، والمخاوف الأوروبية تتأتى من آلاف الدواعش كانوا يحملون الجنسية الأوروبية قابعين بسجون "قسد" بعد رفض دولهم إعادتهم، وتستخدمها "قسد" كورقة ضاغطة عندما تهدد بفتح بوابات السجون إذا ما تعرضت لأي خطر وجودي عبر حرب تركية في شرقي الفرات.

في مفردات بعض التفاهمات الأمريكية التركية للعام الأخير كان هناك اتفاق (غير معلن) أقر بعد عملية "نبع السلام" عام 2019 سمح فيها لتركيا باستخدام طائراتها المسيرة لاستهداف قيادات وكوادر تنتمي لحزب العمال الكوردستاني (بي كي كي) الإرهابي في شرقي الفرات، عبر عمليات نوعية منسقة مع غرف عمليات التحالف الدولي تضمن سلامة جنودها، وشكلت بديلاً أمريكياً لتركيا عن أي عمل عسكري أو اجتياح لمناطق شرقي الفرات، وقد عرضت (وفق تسريبات) كل من روسيا وإيران على الجانب التركي استنساخ نفس التجربة في غربي الفرات، مع تعهد روسي إضافي لأنقرة بمنحها إحداثيات تموضع قيادات البي كي كي، مقابل تخلي تركيا عن عمليتها العسكرية، لكن موافقة تركيا على عرض الأمريكان في شرقي الفرات قابله رفض تركي في غربه، فمسرح الأعمال القتالية في غربي الفرات صغير، والجيش التركي بما يمتلك من وسائط استطلاع وعملاء داخل مناطق "قسد"، قادر على الحصول على كل معطيات وإحداثيات خصومه، والسبب الآخر للرفض التركي أن جيب "قسد" في "منغ وتل رفعت ومنبج" مطلوب التخلص منه كلياً وليس إضعافه فقط على غرار شرق الفرات العصي عن الاجتثاث بسبب وجود قوات التحالف الدولي.

رفض واشنطن للعملية العسكرية التركية عبر تصريحات خارجيتها ووزارة دفاعها ترافقت مع إجراءات عسكرية، وتعليمات مستعجلة لقسد، وإمدادات جديدة ونوعية.

في الإجراءات أعادت قوات التحالف الدولي قواتها لقاعدتي "خراب عشق" و"معمل لافاراج" شمال مدينة "الرقة" بعد أن كانت أخلتهما قبل العملية التركية "نبع السلام" عام 2019، والعودة تحمل في طياتها رسالة واضحة المعالم لأنقرة.

والتعليمات الجديدة لقسد نقلها قائد قوات التحالف والوفد الاستخباراتي (الفرنسي البريطاني الأمريكي) الذي زار مؤخراً مدينة "منبج" واجتمع مع قيادة مجلسها العسكري، وتضمنت التعليمات التريث بعملية التنسيق مع نظام الأسد، وتأخير حصول أي تفاهمات تسمح لجيشه بالدخول لشرقي الفرات، لمخاوف أمريكية بحدوث ثغرة أمنية تعبر من خلالها ميليشيات إيران وحزب الله إلى مواقع قريبة من أماكن تواجد القوات الأمريكية في شرقي الفرات، مما يشكل خطراً عليها، أيضاً في التعليمات طلب من قيادات قسد في شرقي الفرات تحجيم الدور الروسي ومنع تحركاتهم المنفردة، وظهر ذلك واضحاً في الصدام الذي حصل بتاريخ 9/8/2022 عندما احتجزت قوات "قسد" دورية روسية في قرية "المقبلة" بمحيط مدينة "منبج" بعد رفض الروس التنسيق معها وخروجها بشكل منفرد، أدى الأمر لاشتباكات بين الجانبين في قريتي "المقبلة" و"أبو منديل" جنوب "منبج" جرح فيها (7) عناصر من قوات قسد، قبل أن تتدخل قاعدة "حميميم" وتوقف الاشتباكات، أعقب ذلك باليوم التالي مقتل عنصر من قسد (أحمد فرج الحجي) بقصف للنظام استهدف أحد حواجز "قسد" بريف مدينة "منبج".

في إجراءات الدعم العسكري، أكدت مصادر قريبة من قيادة "قسد" وصول صواريخ حرارية جديدة مضادة للدروع من نوع "جافلين" (300 صاروخ)، نشرت على مقربة من خطوط التماس شمالاً مع الجيشين التركي والوطني، لتضاف لصواريخ أخرى موجودة لدى "قسد" من طراز "تاو" و"كورنيت" لمواجهة أي هجوم على مواقعها في شرقي الفرات، لكن الصواريخ الجديدة لم تصل لـ"منغ وتل رفعت" لرفض أمريكي بوجود تلك الأسلحة هناك، رغم أن المعلومات تؤكد أن صواريخ "تاو وكورنيت" موجودة في "منغ وتل رفعت" من قبل.

الرفض الروسي الآخر للعلمية العسكرية التركية إضافة لتصريحات الناطق باسم الكرملين وتصريحات ألكسندر لافرنتييف (المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ورئيس مؤتمر أستانا)، ترافق مع ضوء أخضر من قاعدة "حميميم" لكل من ميليشيات أسد والإيرانيين بالدخول إلى خطوط تماس قسد مع الجيش الوطني (حليف تركيا) على حدود "منغ وتل رفعت" ومنبج وعين العرب، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة مع قوات "قسد" تعمل بإشراف مجموعة ضباط روس نقلتهم حوامة روسية إلى مطار "منغ" كرسالة عسكرية روسية أخرى لأنقرة.

فشل تركيا بتحصيل ضوء أخضر لعلميتها العسكرية في قمة طهران الثلاثية الأخيرة، تلاه فشل آخر في قمة سوتشي التي جمعت الرئيسين بوتين وأردوغان، في وقت تجد فيه أنقرة صعوبة بالغة لصانع قرارها السياسي بإعلان صريح عن وقف العملية العسكرية أو إعلان تأجيلها علانية، في وقت تعيشه البلاد على أعتاب انتخابات يعتبرها الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية (الحاكم) أنها انتخابات مصيرية.

العملية العسكرية التركية اصطدمت ميدانياً بإعادة تموضع عسكري لكل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وجيش الأسد والإيرانيين، وبما يصعب أي عمل عسكري تركي شمالي سوريا شرقاً وغرباً، مما دفع بصانع القرار العسكري التركي لاعتماد تكتيك جديد يرتكز على فكرة إنهاك العدو (قسد والب كي كي وقد تنضم لهم ميليشيات أسد) وتفتيت قواهم العسكرية والتنظيمية عبر ضربات نوعية يومية ومتتالية، تستهدف تجمعاتهم العسكرية ونقاط تمركزهم ورموز قياداتهم، والاعتماد على تكتيك "حرب بين الحروب" المستخدم من قبل إسرائيل بحروبها في قطاع غزة، لكن حتى هذا الأمر اصطدم بمعطيات جديدة ناجمة عن تداخل التموضعات العسكرية لكل من إيران وروسيا وميليشيات الأسد داخل وبجوار نقاط تمركز قوات "قسد"، مما تسبب بحدوث اشتباكات بينية وضربات مجهولة على القواعد التركية ونقاط انتشار الجيش الوطني، تسببت بخسائر كبيرة، فالقصف الصاروخي الذي تعرضت له القاعدة التركية في قرية "كلجبرين" أدى لإصابات وقتلى بصفوف الجيش التركي نجم عن قصف راجمة صواريخ ثقيلة قيل إنها تتبع لإيران لكن أصابع الاتهام ذهبت لقسد، وتكرر الأمر لمرتين متتاليتين أجبرت بعدها تركيا على إخلاء القاعدة والانسحاب التركي من قاعدة "كلجبرين" سبقته معلومات عن سحب قواتها من قواعدها في قرية "طنوز وهرقلي" بريف مدينة "تل أبيض" الغربي، ضمن محافظة الرقة، الواقعة عند الحدود السورية التركية.

لكن ما ضاعت معالمه بالهجوم على قاعدة "كلجبرين" تكشفت أوراقه بقصف مركز للشرطة التركية في أورفا وقرقميش على يد ميليشيات جيش الأسد من نقطة حدودية يتشاركها مع قسد، الهجوم على الأراضي التركية أدى لمقتل ضابط وعنصر تركي وجرح آخرين، رد عليه الجيش التركي بهجوم كاسح استخدام فيه طائرات إف-16 والمدفعية والمسيرات وقتلت العشرات من عناصر النظام وقسد في محيط قرية "جارقلي"، برسالة سياسية وعسكرية أرادت من خلالها أنقرة القول لموسكو وطهران: تلك هي العصابات التي تدعمونها، حاولنا تليين الموقف السياسي ببعض التصريحات ففهمها حليفكم ضعفاً، وحليفكم لا خيار لديه سوى الخيار العسكري، وهذا ما أكده وزير الخارجية التركي شاويش أوغلو بقوله: إن موقف النظام الرافض هو السبب الأساس في عدم نجاح جميع المبادرات حتى الآن، النظام لا يؤمن بالحل السياسي بل بالحل العسكري فقط.

يقول مركز جسور بهذا الصدد: إنّ ردّ تركيا لا يعكس مجرّد الاستياء من عدم التزام النظام في تنفيذ المهامّ الموكلة لقواته بإخراج حزب العمال من المنطقة وَفْق مذكرة سوتشي (2019)، إنما الاستعداد الكامل لأن تشمله العمليات العسكرية في المنطقة، وعدم إتاحة المجال لأي دور أو شكوك حول توفير النظام الغطاء لأنشطة حزب العمال الكردستاني في المنطقة، وأن تركيا من خلال القصف أرادت إظهار قدرتها على خلق (البدائل) عن العملية العسكرية المباشرة لمواجهة التهديدات على أمنها القومي في ظل عدم التزام روسيا والولايات المتحدة بتعهداتهما حيال ذلك.

أمام تلك التعقيدات، وأمام صعوبة التهور بإعلان ساعة الصفر لعملية عسكرية تركية بالشمال السوري قد تنعكس بمردودات سلبية على داخل تركي حساس لا يحتمل المغامرات، تتابع أنقرة عبر البدائل بعمليات استهدافها واستنزافها لقوات قسد وقيادات البي كي كي وقد تضاف لهم ميليشيات أسد بعد تجاوزها لخطوط حمراء تركيا في محيط مدينة عين العرب (كرباني)، ضربات إنهاك تعتبرها أنقرة مرحلة وسيطة أو حرباً بين الحروب ريثما تتوفر الظروف المواتية لعمليتها العسكرية المرتقبة والمضمونة، لكن ماذا إن نفذ صبر أنقرة وقلبت الطاولة على الجميع، وفتحت فوهات نيرانها تحت شعار: الأمن القومي التركي وأمن المواطن التركي خط أحمر تهون أمامه كل المخاطر؟

 

ليفانت - أحمد رحال

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!