-
بين العناد والغضب
ليستِ الحربُ العلّةَ الكبرى في سوريا، بينما النظام السياسيّ في الأصل معتلّ بألفِ علّةٍ، ما جعل القرارَ الوطنيّ مرهوناً بمصالحِ الدّول التي تدعمُ الوضعَ المأزوم، وفق سياسات رُسمت خارج الحدود، بهدفِ الاستحواذ على السلطةِ والمالِ والسلاح، والعملِ على إضعافِ الدولةِ من خلال إفراغها من محتواها، وبناء سلسلةٍ من المرجعياتِ الاستيطانية البراغماتية، على حسابِ تسطيحِ القضايا الرئيسية.
ويبقى الصراعُ بين الحليفتين الأقوى، (المانشيت) العريض للحالةِ السوريةِ الراهنة، فبينما تسعى إيران لتغييرٍ ديموغرافي في الأرضِ السورية، يبقى هدفُ روسيا الأكبر حمايةَ مصالحها الإستراتيجية، خاصة القاعدة العسكرية التابعةِ للبحرية الروسية، في مدينة طرطوس، لإثباتِ أنها ما تزال قوّةً يُعتدّ بها على الساحةِ الدولية، بعد الإطاحةِ بحلفائها السابقين، مثل صدام حسين ومعمّر القذافي، كذلك لتعزيزِ دعمِ الرئيس بوتين في بلاده، في ظلّ العقوباتِ الاقتصاديةِ المفروضة، خاصة أنّ انجازاته البرّاقة في سوريا تُشغلُ الشعبَ الروسيّ عن الأوضاعِ الداخليةِ السيئة، وترفعُ الاعتزازَ بالوطنية، كذلك عملياتِ استعراضِ الطائرات والصواريخ في البلدِ المنكوب، تُعتبر دعايةً مضمونةً للتصنيعِ العسكريّ الروسيّ.
وفي ظلِّ المصالح الروسية، الآنفة الذكر، يبدو أنّ صبرَ الرئيس الروسيّ ينفد إزاء حليفه الأسد، الذي لم يُثبتْ امتنانه للرّوس كما يجب، بعد بقائه في السلطةِ بفضلهم، حيث أفادتْ وكالةُ (بلومبرغ) للأنباء، بأنّ بوتين الذي يحرصُ على إنهاءِ مغامرتهِ العسكرية في سوريا، بإعلانِ تحقيقِ النصر، يصرّ على أن يُظهرَ الأسد المزيدَ من المرونة في المحادثاتِ مع المعارضةِ السورية، بشأنِ التوصّلِ إلى تسويةٍ سياسيةٍ مُرضيةٍ، لوضعِ نهايةٍ للصراعِ المُحتدمِ منذ عشرة أعوام، حيث أثار رفضُ الرئيس السوريّ التنازلَ عن أيٍّ من صلاحياته مقابل الحصول على مزيدٍ من الاعترافِ الدولي، وربما مليارات من الدولارات في شكلِ مساعداتٍ لإعادة ِالإعمار، أثار فوراتِ غضبٍ عامّة ضده، من قبل منشوراتٍ روسيةٍ ذات صلةٍ ببوتين.
وأشيع أنّه، وعلى مدارِ سنوات، مارستْ روسيا ضغوطاً على الأسد خلفَ الكواليس، للموافقةِ على تقديمِ بعض التنازلاتِ السياسيةِ الرمزيةِ، على الأقل، لكسبِ تأييدِ الأمم المتحدة، بهدفِ إعادةِ انتخابه في عام 2021، ولكن هذه الضغوط لم تؤتِ ثمارها، ليشكّلَ الانتقادُ الروسي الصريح للحليفِ السوري، تغييراً جذرياً في نهجِ موسكو، ونشر منبرٌ إعلانيٌّ مرتبط بـ(يفيجيني بريجوزين)، رجل الأعمال الروسيّ المقرّب من بوتين، والمعروف باسم (طبّاخ بوتين)، لكونه متعهّد تقديمِ طلباتِ الطعامِ والضيافةِ للكرملين، نشر مقالاً على الإنترنت هاجم فيه الأسد ووصفه بالفاسد، كما أشارَ المقالُ إلى استطلاعٍ يُظهر حصول الأسد على تأييدٍ بنسبةٍ لا تزيد على 32 %، وأدرجَ عدداً من البدائل المُحتملة له من داخل النظام والمعارضة، على حدّ سواء، ليختفي المقالُ سريعاً من على وسائل التواصلِ الاجتماعي، وأكّد مصدرٌ آخر مقرّب من الزعيم الروسي الغاضب، أنّ بوتين يعتبرُ الأسدَ شخصية عنيدة خيّبت آماله، في الوقت الذي لم يصدر فيه أيُّ ردّ فعلٍ رسمي من جانب دمشق، ولم تتطرّق الصحفُ السورية إلى الانتقاداتِ الروسيّة على الإطلاق.
ورغم تضارب الأخبار حول إمكانيةِ التخلّي عن الرئيسِ السوري من عدمها، إلاّ أن هذا لا ينفي حقيقةَ أنّ همَّ روسيا الأساسيّ هو التخلّص من العبء الأكبر، وهو حماية الرئيس السوري، حيث سّلط تقريرٌ للمجلسِ الروسيّ للشؤونِ الخارجية، الضوءَ على مسعى روسيّ أكثر جدية لإحداثِ تغييراتٍ في سوريا، وتحدّثَ عن توقّعاتٍ بتوصّلِ كلٍّ من روسيا، وإيران، وتركيا، إلى توافقٍ على الإطاحةِ بالأسد، وإقرارِ وقفٍ شاملٍ للنار، مقابل تشكيل حكومةٍ انتقالية، تضمُّ أطرافاً من النظامِ، والمعارضةِ، والقوى الديمقراطية.
وعزّز التقريرُ التوجّهَ الذي أثارته حملةٌ إعلاميةٌ وسياسيةٌ روسية، وصفتِ الأسدَ بأنّه فاقدٌ للشعبية، وغيرُ قادرٍ على الإصلاح، وقام سفيرٌ روسيٌّ سابق بنشرِ مقالةٍ، انتقدَ فيها حجمَ الفساد، كذلك أخطاء القيادة السورية، وانفصالها عن الواقعِ السياسيّ والعسكريّ، لتتعزّزَ الشكوكُ الروسية بأنّ الأسدَ الضعيف لم يعدْ قادراً على قيادةِ البلاد، وأنّه يعملُ لجرِّ موسكو نحو السيناريو الأفغاني، والاحتمالاتُ متعددةٌ حول حلِّ النظام، الذي يشكّلُ العقدةَ في المنشار، فهناك سيناريو يرى أنّ القوّاتِ الأجنبيةَ الموجودةَ في سوريا تقبلُ نطاقَ نفوذٍ لكلّ منها، لتبقى سوريا مقسّمةً إلى منطقةٍ محميّةٍ من طهران وموسكو، ومنطقةٍ معارضةٍ مدعومة من أنقرة، وشرق الفرات المدعوم من واشنطن، بينما يتطلّبُ السيناريو الثاني، وهو الأقلّ كلفة للجميع، انسحاباً كاملاً لجميعِ القوّات، وتوحيدِ البلادِ بعد تحقيقِ تحوُّلٍ سياسي، وفقاً لقرارِ مجلسِ الأمن رقم 2254.
وبدتِ التغيُّراتُ في موقفِ موسكو تجاه الأسد في مواقف عدّة، أبرزها إهانة رأسِ النظام، وكانت وسائلُ الإعلامِ الروسية، سابقاً، قد نشرتْ مقاطع وصوراً مهينة للأسد، ولبعضِ أركانِ حكمه، منها ما حدثَ عند استدعاء الرئيس السوريّ إلى موسكو بطائرةٍ عسكرية، واستقباله كموظّفٍ عادي من دون أي اعتبار له كرئيسِ دولة، كما منعَ أحدُ الضبّاط الروس الأسدَ من اللّحاقِ بالرئيس بوتين خلال الاستعراض، الذي تمّ في قاعدةِ حميميم العسكرية، وغير ذلك من المواقف، ويذهبُ أحدُ التقارير في تفسيره لتلك الصور، على أنّها رسائلُ تبعث بها روسيا للمجتمع الدوليّ، من بينها أنّ الكرملين قابلٌ للتفاوضِ على مستقبلِ سوريا خالية من الأسد، وما عزّز ذلك غضُّ النظرِ عن الضرباتِ الإسرائيليةِ المستمرّة على سوريا، وقد لا يكون ذلك من قبيلِ المصادفةِ أنّ الهجماتِ الإسرائيليةَ تضاعفتْ بعد موجةِ المقالاتِ الإعلاميّةِ الروسيّة التي هاجمتِ الأسدَ ونظامه، ولتزيدَ الطينَ بلّة، قامتْ روسيا بكشفِ فسادِ النظام الحاكم عام 2019، خاصة كذب رئيسِ الوزراء السوري على المواطنين، بشأنِ ندرةٍ تعانيها البلادُ من إمداداتِ النفطِ والغاز، لتبريرِ حدوثِ انقطاعٍ طويلٍ في الطاقةِ الكهربائية، بينما كانتِ الكهرباءُ السوريةُ تُباع إلى رجالِ أعمالٍ في لبنان.
والصراعُ الذي ظهر مؤخراً بين أجنحةِ النظام، والمتمثّل بمهاجمةِ التيّارِ الموالي لإيران، ومحاصرته اقتصادياً وسياسياً، كلّ ذلك تقفُ موسكو خلف كواليسه، وتحرّك خيوطه، وبينما تعاني إيران من ضعفٍ بعد مقتلِ قاسم سليماني، كذلك العقوباتِ الأميركيةِ الصارمة، وأزمتها الاقتصاديةِ المتداعية، إلى جانبِ وباء كورونا الذي أحدثَ تغييراً في الإستراتيجية، راحتْ موسكو تصوّب سهامها نحو عرّاب الاقتصاد السوريّ، في صراعٍ محمومٍ على الثرواتِ والشركاتِ، التي تشكّل كنزاً في هذا البلدِ الغارق في الفوضى والحرب الأهلية، ليغدو (مخلوف) هدفاً لروسيا التي تريد التوسّعَ في سيطرتها الفعلية، وبهذا تتكشّفُ أسبابُ انقلابِ الأسد على ابن الخال المُقرّب، حيث تشيرُ جميعُ المؤشرات إلى اتجاهٍ واحد، وهو النظام الروسي.
وعلى ما يبدو فإنّ عام 2020، هو عام إشهارِ فساد الأسد، والذي سيكون له تداعياته في سنة 2021، التي ستشهدُ الانتخاباتِ الرئاسيةَ السورية، في الوقتِ الذي تسعى فيه روسيا لإحداثِ تغييرٍ جذريّ في سلوكِ النظام، والذي بدا جليّاً في الآونة الأخيرة، الأمر الذي أخرجَ الأسد عن صمته، وأشيعَ أنه أوعز لأحدِ نوّابه في البرلمان، بتهديدِ الرئيسِ الروسي شخصياً، والقوّاتِ الروسيّةِ المنتشرةِ في اللاذقية، بقاعدةِ حميميم الجوية، عبر منشورٍ فيسبوكي صريح، متوعداً بما سمّاه (إشعال جبال اللاذقية ضد المحتلّ الروسي)، (كفرضيةٍ) منه، رداً على (فرضياتٍ) روسيةٍ تناولتْ مصيرَ الأسد، وإمكانيةَ رحيله، كبوابةٍ لحلٍّ واسعٍ وفوريّ، في سوريا.
ليفانت : عبير نصر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!