الوضع المظلم
السبت ٣٠ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
القائد | بقلم ثائر الزعزوع
القائد | بقلم ثائر الزعزوع

ثائر الزعزوع - صحفي سوري

في مشهد شهير من فيلم ناصر ٥٦ الذي قام بتأليفه محفوظ عبد الرحمن و أخرجه محمد فاضل وقام الفنان الراحل أحمد زكي بلعب دور البطولة فيه، ترصد كاميرا محمد فاضل قيام فريق التأميم المصري بتنفيذ قرار الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، حيث يتحرك الموظفون وبحس عالٍ داخل مكاتب القناة الأجنبية ليعلنوا عودتها إلى السيادة المصرية، تقودنا الكاميرا إلى أحد الموظفين وهو يحمل صورة لجمال عبد الناصر ويتساءل مستغرباً ألا يوجد مطرقة في هذا المكتب؟ ثم تقع عينه على بعض التماثيل المصرية القديمة الموضوعة على أحد المكاتب، يتناول أحدها ويستخدمه كمطرقة، ويقوم بتثبيت صورة ناصر على الجدار، في إشارة إلى عودة « السيادة المصرية » ذلك المشهد الذي لا يستغرق عشر ثوان ربما، يقدم ملخصاً للآلية أو العقلية التي يجب على الجماهير التفكير ضمنها، فوضع صورة ناصر على الجدار، تعني عودة السيادة المصرية. و ليس وضع العلم المصري مثلاً.


وتتهم حقبة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، من قبل العديد من التيارات السياسية في المنطقة، بأنها هي من أسست الدولة الأمنية الأولى، وكرّست فكرة « القائد » في أذهان الجماهير، التي لا يزال بعضها وحتى يومنا هذا، يتحسر على أيام ناصر، دون أي محاكمة منطقية لتلك الأيام، وما أنجزته سواء على الصعيد المصري، أم على صعيد المنطقة بأسرها.


وقد أفرزت حقبة السبعينات نماذج مصغّرة عن ناصر، تحمل الشعارات نفسها التي كان ناصر يحملها، والأهم أنها تؤسس لدولة القائد الضرورة والقائد الملهم، والذي لا تكتمل صورته أبداً إلا بوجود دولة أمنية إرهابية، وارتفعت الصور على الجدران وفي الساحات العامة، وعلى أغلفة الدفاتر المدرسية، في المطارات في الموانئ، في الجمعيات الاستهلاكية، صور في كل مكان، وتماثيل أيضاً، ويبدو النموذج السوري أكثر فجاجة ومبالغة في كل شيء، فالقائد، هو المعلم الأول، المهندس الأول، الحرفي الأول، وللدعابة فقد كنا نتهامس سراً، أنه أيضاً الراقصة الأولى، لم لا؟ فهو الكلمة الفيصل دائماً، الذي يطأ بقدميه البرلمان والحكومة، ويتدخل حتى في شكل اللباس المدرسي. ومع الأيام صار السوريون يخافون من صورة حافظ الأسد المعلّقة على الجدران، خوف يسيطر على الجميع دون استثناء، تروى حوادث كثيرة عن أطفال، لم يتجازوزا الثالثة من أعمارهم، كانوا السبب في اعتقال أحد ذويهم فقط لأنهم قالوا، مثلاً، إن أباهم لا يحب « القائد ».


القائد، لم يحمل في جعبته مشروعاً تنموياً وطنياً، فهو حامي الأمة وحامل أمجادها وتطلعاتها، ولا يناسبه أبداً أن ينشغل بتعبيد الطرقات، وبناء المدارس والمستشفيات، أو رفع مستوى المعيشة للمواطنين، فهذه أشياء ثانوية يمكن الالتفات إليها، بعد تحقيق آمال الأمة، و كيف تتحقق آمال الأمة؟ بالشعارات طبعاً، وهل ثمة أفضل من الشعارات سبيلاً لتنويم الجماهير، و اعتقالها إن ناقشت أي شيء بتهمة وهن نفسية الأمة، فالحريات العامة ممنوعة، و الصحافة ممنوعة، وحتى الابتسام ممنوع، في معركة الأمة الكبرى. القائد يخطط لتحرير فلسطين، فيما قواته تقتل الفلسطينيين، وتحتل لبنان وتحوله إلى مزرعة كبيرة للمخدرات والفساد.


و حين مات القائد، لم تعش الجماهير ألم فقدانه، أو تجد نفسها ضائعة لا تدري أين تذهب، فقد ورثه ولده، والذي قرر أنه سوف يسير على نهج «القائد». وصولاً إلى العام ٢٠١١ كانت الأمور تسير بهدوء شديد جداً، فالوريث صار قائداً أيضاً، وتبوأ كما أبوه المكانة نفسها، فصار معلماً أولاً، وفيلسوفاً أول، وللدعابة أيضاً فقد صار راقصة أولى أيضاً، لم لا؟ فكيف إذاً يطالب أولئك المخربون المتآمرون برحيل «القائد»؟! ألا يعلمون أن رحيله يعني رحيل الوطن، وانتهاء الدولة السورية؟ فكان لا بد من إفهامهم أنه إما « الأسد أو نحرق البلد » لا يوجد اختصار في اللغة أكثر بلاغة من هذا الاختصار. ببساطة لأن البلد، تعني الأسد فقط، و لا يمكن تخيّل سوريا دون وجود القائد الذي يحميها ويحمل تطلعات الجماهير وآمالها. يقول أحد أعضاء مجلس الشعب السوري في لقاء على القناة الحكومية: «تسقط السماء ولا يسقط السيد الرئيس»، ولا يمكن أي مؤسسة دينية تكفير الرجل على ما قاله، فالقائد أهم من السماء نفسها.


عام ٢٠١١ كتب الصحافي السوري نبيل صالح مقالة في موقع الجمل الذي يمتلكه، عنوان المقالة «يا حافظ الأسد» كان نبيل صالح يطالب «القائد» بالنهوض ليفعل ما فعله في مدينة حماه، وفي سواها من المدن ليقضي على المؤامرة، لم يكن نبيل صالح وقتها متأكداً من أن القائد الوريث قادر على أن يقوم بما قام به أبوه، لكنه بعد ذلك سينتشي فرحاً وهو يرى جثث الأطفال المتفحمة في العديد من المدن السورية، وسيكتب عشرات المقالات متلذذاً بالدم السوري وهو يسفح كي يبقى «القائد».


ترتفع اليوم صور «القائد» على حطام المدن، يظهر مبتسماً فوق الخراب، منتصراً تحيط به جماهيره، يمارس رياضته الصباحية بهدوء شديد، ويشرب قهوته وهو يتصفح المقالات التي تمجده، ويضحك، وهو يلاعب أولاده الذين يتمتعون بصحة جيدة، وسوف يرثه أحدهم في يوم من الأيام ليصير قائداً أيضاُ. ليس مهماً ملايين السوريين المهجّرين والنازحين، ليس مهماً أبداً عشرات آلاف المعتقلين، ليس مهماً، فما دام «القائد» بخير فإن سوريا بخير.

ختاماً، حين نقرأ رواية جورج أورويل الأشهر «١٩٨٤» نشعر أننا عشنا تلك التفاصيل كلها، نشعر أن أورويل كتب عنا، وليس عن عالم متخيل، السوريون الذين عاشوا فترة الثمانينات يعلمون أن أورويل كتب عنهم فقط، ربما العراقيون والليبيون واليمنيون يقولون ذلك أيضاً.


القائد | بقلم ثائر الزعزوع القائد | بقلم ثائر الزعزوع

كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!