-
العلماني وهواجس الجنة
في هذه الوقفة القصيرة لسنا في وارد لوم مَن كان على استعداد دائم لأن يغدو ضحية مجانية كلما شعر بتأخر نزول الكبش الرباني من الفضاء، بكونه يبغي التقرب من ذبّاحيه بأقدامه وأفعاله وهواجسه، ربما شغفاً بأن يُمثل دور إسماعيل في الأديان السماوية كل فترة من الزمن، سواء من باب السمع والطاعة العمياء لمن يسوقونه ويتحكمون بخطواته، أو من باب عدم إحراج الراعي البشري أمام واهب الموجودات، وحيث لا ينبغي له أن يُحرج ذلك العبد الأرضي أمام ربه السماوي.
إذ بالنسبة لصاحب العقيدة السماوية فمن البديهي أنه متعوّد على إحالة أكبر معضلة تصادفه في دروب المعمورة أو أصغر إشكالية حياتية تحدث معه على خد الصعيد إلى السماء، عساهُ يخفف حيناً من هواجس الضغط عن ذاته المقرة بضعفها، وأحياناً ليزيد التحويل والاتكاء والتعويل على الغائب علّهُ يُضاعف مخزون الاقتناع بأنه غير مسؤول عما يجري له في الحاضر، وأنه بالتالي ليس أكثر من شخص موجود تُحركه أيادي الغيب، وبناءً على ذلك يتحرر من واجب البناء من حوله أو الاشتغال على ذاته، ويتخلص بالتالي كلياً من محاكمة النفس على تقاعسها أو على ما اقترفت من المعايب.
ولكن في مقابل ذلك فما الذي يدفع مَن لا شأن له بالماورائيات إلى أن يحيل كل مشكلاته السياسية والفكرية إلى موجد الكائنات؟ أليس ذلك يعني بأن تلك الجهات ماهي إلا منصات أرضية تقود المؤمن الأرضي من وراء ستار مصطنع لا علاقة له بالستار الموجود بين المخلوق الأرضي وخالقه السماوي؟ باعتبار أن الطرفين الآمر والمأمور من سكان الأرض، وهم عملياً خارج إطار مشروع البعث والقيامة، ولكن لأغراضٍ ما أراد الكائن الذي يتحكم بمسار الرعية الاستفادة من تجربة الأديان السماوية وخلق جدار فاصل ومسافة إبهام مقصودة بين القائد والمنقاد، طبعاً ليس حباً بالسماء وقوانين السماء، إنما للاستعانة بنجاح التجربة الدينية الطويلة في مجال التحكم بحركة الكائن الأرضي من خلف الحجاب، وذلك كي يقف عقل الفرد عن طرح التساؤلات المتعلقة بالذي يقودنا، يأمرنا، يسيرنا، يغذينا بأفكاره ويتحكم بنا كما يتحكم الراعي بمسار قطيعه، علماً أن الراعي في العصر الراهن ربما كان في قعر التاريخ مقيم، ومع ذلك يقود من أغواره العقائدية قطيع المنساقين على سطح الحاضر، هذا بالنسبة لمن كان يحيل أسباب كل ما يحصل له وللمحيط من حوله إلى واهب الموجودات في العالم، ولكن ما هو مبرر من لم يكن مؤمناً بحقيقة الانتقال يوماً الى الجحيم أو الفردوس في أن يرسل الأبرياء إلى حتوفهم ويسميهم شهداء! والشهداء كما نعلم مصطلح ديني صرف ولا شأن للعلمانيين به؟.
على كل حال لا نمتلك ههنا أية سلطة للحكم على النوايا، ولكن المنطق يقول بأن من يدعو إلى شيء عليه أن يكون مؤمناً به حق الإيمان، ويعمل حقيقةً على تطبيق ما يؤمن به على أرض الواقع، أما إذا كان خلاف ذلك فهو إما يسخر من أهل الإيمان ويستهزئ بطقوسهم ومعتقداتهم، أو أنه يستغبي العامة لتحقيق غاية ما من وراء ذلك الادعاء، لأنه وبكل بساطة فالعلماني ينتمي بكل هواجسه وتصوراته إلى هذا العالم، ولا سعي لديه للفوز بمغانم دنيا أخرى، وعلى ذات السوية فبجواره أو على مقربةٍ منه، فالملحد كذلك هو الآخر لا يعترف بوجود الخالق أو رب الكون، ولا يؤمن البتة بما لا يراه، ولا يؤمن بالغيبيات، بينما الدين كنهه وجوهره وأساسه هو ما كان غائباً وليس فقط ما كان ظاهر.
وفي الختام لا بد من القول بأنه كما أن دول الشرق الأوسط تعج بسماسرة وتجار الآخرة، ومستغلي المؤمنين البسطاء من خلال مواقعهم الدينية أو عبر سلطتهم المعرفية المستمدة من حفظ النصوص المقدسة أو فهم العلوم الشرعية، كذلك الأمر فظاهرة العلماني أو بشكل أدق الملحد الذي يستغبي المتدينين البسطاء موجودة في بلادنا بين جماعتي السياسة والثقافة، الذين يحاولون من خلال المراءات التقرب من فئات جماهيرية ما، في فترة زمنية ما، ولغاية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ما، على سبيل المثال كأن يكون ثمة حزب علماني حتى أذنيه ولكنه يحض الناس على الاجتماع في الأماكن المقدسة، ويعتمد بشكل رئيسي على حشد وتأجيج وتوظيف كل ما هو ديني من أجل تحقيق مآربه اللا دينية، وذلك ليس احتراماً لثقافة المؤمن أو عقائد وشعائر العامة، إنما لاستغلال العاطفة الدينية واستثمارها في مشاريع شخصية أو حزبية لا علاقة للدَّيَّان أو الدين أو المتدين بها.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!