-
الرئاسة بين الألقاب والأفعال
لم يتعوّد العراقيون أو غيرهم من شعوب المنطقة إجمالاً على استخدام مصطلحات التفخيم والتعظيم على الطريقة التركية أو الإيرانية في مخاطبة "الما فوق" إلا في أوقات فُرضت عليهم، فكانت دخيلة وليست أصيلة، خاصة في العهد الملكي، حيث سادت مفردات البيك والباشا المستوردة من فلكلور الدولة العثمانية، وباستثناء ذلك كان المصطلح العسكري (سيدي) هو الأكثر شيوعاً، وفي كل ذلك كانت هناك ثقافة تصاحب الكثير من العاملين في إدارة البلاد وعلى مختلف المستويات مستمدة من إرث غائر في التاريخ يتكثّف دوماً في ثقافة وسلوك وتعاطي الحكام من الملوك والرؤساء في مجمل منطقتنا، وبالذات بلادنا.
ولم يعد خافياً على الجميع أنّ الرئيس الأسبق صدام حسين ورفيق عقيدته اللدود حافظ الأسد وأمثالهم، كانوا الوحيدين ممن يستحقون المحاكمة والعقوبة على ما اقترفوه بحق الشعب والوطن تحت مختلف التسميات والشعارات، وربما لا أكون متطرفاً إذا ما قلت إن (سيادتهم) كانوا مدرسة أنتجت جحافل من الدكتاتوريين الصغار الذين ترعرعوا في كنفهم، وحينما استقام عودهم بدلوا جلودهم بجلود أحدث وإكسسوارات أجمل وألقاب أفخم، ليس في جمهورياتهم فقط بل في كل البلدان التي اجتاحتها حمى التغيير الفوقي والتداخل الجراحي على أيدي جراحين أجانب.
ولكي ننصفهم أيضاً، فإنّ نماذجهم هذه لم تنتج وتصنع خلال العقد الماضي أو حتى العقود المنصرمة، بل تمتد جذورها إلى قرون عديدة من العقلية والثقافة المغلقة والسلوك الأحادي المكثّف بشخص واحد أو عدة أشخاص، والذي تسبب فيما آلت إليه مجتمعاتنا حتى هذا اليوم، حيث البون الشاسع بين الأفعال والألقاب، وبين الشعارات والتطبيق على أرض الواقع، فلم يك البعثيون وغيرهم، ممن أتيحت لهم فرصة الانقلاب والتفرّد في الحكم والسلطة، أصحاب هذه المدرسة في العنف والإرهاب وإلغاء الآخرين، بل هم نتاج منظومة فكرية وتربوية متراكمة عبر مئات السنين، ربما كانوا مبدعين في ترجمة تلك الأفكار والأهواء إلى الحد الذي لم ينافسهم أحد فيما مضى من الأيام، بل إن الخلف تجاوز السلف في العديد من الأفعال والألقاب، هذا الخلف الذي توقع الكثير من الشعوب أن يكون البديل الأفضل الذي نزفت تلك الشعوب دماً ودموعاً من أجله عبر عشرات السنين، وبصرف النظر عن آلية التغيير ومشروعيته، فقد كان مفترضاً أن يكون البديل في الحد الأدنى متناقضاً تماماً مع من سبقه في استئثار للسلطة وتشبث بالمناصب.
كنا نتوقع جميعاً، ربما حتى ضحايا السقوط، أن يكون البديل مغايرٌ تماماً لما كان أيام (القائد الضرورة والحزب القائد) وتنتهي وإلى الأبد مصطلحات (البيعة ونريدك يا صدام أنريدك والأسد أو نحرق البلد وملك ملوك أفريقيا)، بل تمادى الكثير من الحالمين أن تتوقف مسيرات القطيع في تأييد الرؤساء وألقابهم، لكن الذي حصل هو تكاثر يوغليني انشطاري لأولئك الرؤساء، فأصبحنا بدلاً من قائد أوحد للضرورة نمتلك العشرات من مختاري العصر وأئمة الأمة ومخلصيها.
كنا نتوقع جميعاً أن ننتهي من القنوات الإعلامية الحكومية التي تمجّد الحكومة وتوهم الشعب بعظمة القائد ومنجزاته، وأن يتم وضع حدّ للنظام القبلي وتحجيم رموزه من الشيوخ ومنع تدخلهم في الشأن الحكومي والسياسي، وفصل الدين عن الدولة والسياسة، فإذ بنا تحت ظلال السيوف وحكم المضايف.
إذاً، المشكلة ليست بالرئيس صدام حسين أو ملك الملوك القذافي أو القائد الدكتور الأسد أو بشخصهم وحتى بنظامهم، بل هي مشكلة سلوك تربوي وأخلاقي واجتماعي متكلس متوارث كعادات وتقاليد وممارسات فعلية لا تتفق مع معسول الكلام وشعارات الاستهلاك العاطفي والغريزي للجماهير المغيبة بقدر ما هي تعبير عن الأحادية والنرجسية والدكتاتورية وعقلية المؤامرة والاعتقاد بأنّ كل مخاليق الله إنما خلقت لخدمة الشيخ والآغا والباشا والبيك ومن ثم القائد الضرورة وملك الملوك وأهدافهم المقدّسة، سواء كان هذا الرئيس رئيساً للوزراء أو الجمهورية أو شيخاً لعشيرة أو مديراً عاماً أو رئيساً لجوقة من الأبواق والطبالين.
حقيقة؛ كانت التوقعات والطموحات كبيرة بكبر أوجاعنا وعمقها، لكن ما حدث كان صغيراً لا يتلاءم مع الزلزال الذي وقع في نيسان 2003 وما بعده في بقية البلدان التي تعرضت لهزّات الطائفية والعرقية وتدمير شبه تام للبلاد على أيدي الاحتلال، سواء كان أجنبياً أو محلياً، إقليمياً أو إرهاباً دولياً.
ليفانت - كفاح محمود
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!