-
الحرب بقطارة التقسيط
لقد قال ملك بروسيا، فريدريك العظيم، "إن الدبلوماسية دون أسلحة تشبه الموسيقى دون آلات"، ودون ردع موثوق، فقد تجاهل الغرب صوت الدُب في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007: "إن الحلف الأطلسي جثة من الحرب الباردة لا معنى له، ولا يستطيع محاربة الإرهاب".
وكنظراته الماكرة وكلماته التي تذكرنا بكلمة "ديليسبس" في خطاب الرئيس المصري جمال عبد الناصر عند تأميم قناة السويس، كانت تحركات الدب الروسي المُستذئبة، على الرغم من كل التحذيرات الدولية له من القوى التي لا معنى لها، ورغم كل الاجتماعات والحوارات معه. بل ولتجد تكرار خططه المكشوفة في حروب بالتقسيط في غزو جورجيا واغتصاب منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم الاعتراف بكل منهما كجمهورية شعبية مُستقلة، ليُعاود الكرة عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم، والآن يسلخ منطقتي (لوغانسك ودونيتسك) في الدونباس الأوكرانية، ويعترف بهما كجمهوريتين شعبيتين مستقلتين.
ومما لا شك فيه، فإن الانسحاب الكارثي من أفغانستان عزز هذا الموقف المُتعالي لروسيا، حيث رأوا فيه تعبيراً واضحاً عن عدم رغبة جو بايدن في استخدام القوة العسكرية الأمريكية، على الرغم من تكريس الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن، كنادٍ مغلق، "مسؤول عن الأمن الكوني"، يمتلك سلاحين: القنبلة النووية وحق "الفيتو"، إلا أن أياً منهما لا دور له أمام واقع الأرض الذي يحبو به الروس، وقد أعاد بتلك الخطوة وضرباتها دول أوربا إلى ما قبل معاهدة "وستنفاليا" التي أنهت حرب الثلاثين عاماً ورسمت حدود ومفاصل سيادة الدولة في القرن الـ 17. ويتشدق العالم وقوى أمريكا وبايدن والغرب حالياً بالقانون الدولي والعقوبات الدولية التي ظنوا أنها بديل كافٍ من القوة، ونوع آخر من الضغط على روسيا التي خرقت "اتفاق مينسك"، والأعراف الدولية باستخدام رُقع الشطرنج "دبلوماسية الدبابات"، التي انتهجها "بطرس الأكبر المعاصر"، وهو اسم للرئيس الروسي أطلقه عليه الخبير ديمتري سايمز.
لقد عجز الغرب عن فهم بوتين حتى بعد عقدين من حكمه، ولم يستمعوا إليه في 2017: "نريد أن يكون الروس والأمريكيون شركاء، لكننا نشعر أن أمريكا تعاملنا كضيف غير مدعو إلى مأدبة"، هذا بالفعل ما كان، لتتغير الأجوبة ويتحدّى بها القوى المريضة، بتحالفات استراتيجية مع الصين، وتشكيل نظام عالمي جديد على أنقاض النظام العالمي الذي صنعته أمريكا، ولم يُصدق الغرب الكلمات التي أعدّوها مهاترات ها هي تتحقق، بل وإن بريطانيا وقعت أسيرة قول تشرشل المأثور "إن روسيا لغز يلفه الغموض داخل أحجية"، وإن روسيا القيصرية ثم الشيوعية ثم البوتينية هي العدو الموجه ضد أوربا، وإنها "القدس الثانية" و"روما الثالثة"، ليقع الغرب في إحجام عنيد، عن الإصغاء فعلاً إلى ما يقوله بوتين ومسؤولوه، والآن، بات واضحاً أن ذلك الوضع غير آمن على الإطلاق، ومن المحتمل أن يكون خطيراً، قد يُؤجج احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، في خطوة تبدو، في أحسن الحالات، كأنها محاولة يائسة لردع محاولات بوتين المزعومة باستعادة الاتحاد السوفياتي ورفضه قبول أوكرانيا كدولة مستقلة، وكلا الأمرين غير صحيح.
إنّه الفشل الذريع في فهم بوتين، ومشروعه بدافع غروره، الذي ظن أنّها ستكون عملية تجري في سياق نوبة غضب هدفها تلقين أوكرانيا درساً. كما أن أمريكا في ورطة أكبر، فأي أزمة في أوربا أو الشرق الأوسط تهزّ العالم كله، وأعتقد أن الأمر ما كان ليحدث في عهد ترامب، فأمريكا المهزومة بالعار في أفغانستان والعراق وغيرهما لا تريد استخدام القوة ضد الروس وحليفتهم الصين القادرة على مساعدة روسيا في مواجهة العقوبات، ولا تملك ترف التوجه بالكامل إلى الشرق الأقصى ومنطقة المحيطين الهندي والهادي من دون التورّط في أوربا والشرق الأوسط خلافاً لحساباتها الاستراتيجية الجديدة.. والآن نفذت روسيا ضربات ضد البنية التحتية العسكرية وحرس الحدود الأوكراني، وإدارة ظهرها للعقوبات التي طالت 323 شخصية روسية، شملت وزير الدفاع وقادة عسكريين ونواباً في الدوما ومؤسس "فاغنر" ومصارف، ليُتشدّق "بايدن" مرة أخرى "روسيا تتحمل وحدها مسؤولية الموت والدمار اللذين سينجمان عن هذا الهجوم"، فهل يصدق؟ أشك.
ليفانت – إبراهيم فضلون
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!