-
وزارةُ الرعب السورية: الحصانُ المتوحش الرابح
عن المعايير التي أضافها حافظ الأسد لسوريا على مدى الثلاثين عاماً التي قضاها رئيساً عليها، يقول السياسي الأميركي الشهير هنري كيسنجر "لم يكن الأسد رجل التغيرات الكبرى، ولكنه كان رجل البقاء مع الإضافات الصغيرة".
في هذا السياق، لا تبدو هذه مبالغة في ظلّ معرفتنا أنّ الاسم الشائع لسوريا حسبما صدّره الإعلام الرسمي هو "سوريا الأسد". ولذلك، وكما يحدث لدى عائلات المافيا وأُسَرِها، تتلاشى الحدود الواضحة بين العائلة والمشروع الربحيّ للحكم، ويصير تحقيق المصالح الشخصية بأي ثمن وبأيّ طريقة هدفاً عائلياً بحدّ ذاته. هذا الشعور بالتميز وتلك الروح المتوثبة للذوبان في نمط الأسرة، لم يمنعَا انغماس الأسد الابن في تراث عائلته المافياوي، وأن يستقطر بداخله هذا الشعور العالي بالاستحقاق. بينما المدهش، وعلى رغم كلّ ما حصل ويحصل، أن الأخير ما زال يتوهم أنّ بقاءه هو المخرج الوحيد من الأزمة. يريد أن يبقى على جماجم الناس وآثار مدنهم وقراهم التي دمرها فوق رؤوسهم. هل هذا ممكن؟.
لم يعد لمثل هذا السؤال أي معنى الآن، خصوصاً أن الأسد ما يزال مصراً على الإيغال في النهج الدموي المدمر، وتطبيق مبدأ العقاب الجماعي على السوريين. يتوهم إمكانية إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الثورة السورية وكأن شيئاً لم يكن. بالمنطق ذاته يتظاهر بأنه لم يفقد السيطرة على مجريات الحرب، وما ستفرضه من حلول ومخارج سياسية. والحقيقة أن جيشه الذي كان يعرف بـ"الجيش العربي السوري" فقدَ، بفعل الانشقاقات وبتحالفه مع المليشيات الأجنبية، بنيته وعقيدته الوطنيتين، فتحول إلى مليشيا أخرى بلا عقيدة، ومن دون معنويات يحفزها هدف وطني. وللحفاظ على بلد مُهمّش يُدار كمزرعةٍ شخصية، يولي النظام السوري أهمية خاصة لوزارة الدفاع، باعتبارها واحدة من أبرز الحقائب الوزارية السيادية في حكومته المكوّنة من 29 وزيراً. والتي تصاعد دورها منذ عام 2011، إثر انخراط قوى الجيش في قمع الاحتجاجات الشعبية المناهضة للنظام الحاكم، ما ضاعف أهمية وحساسية انتقاء "الحصان الرابح" بالنسبة له لتبوّء الوزارة. وخلال سنوات الحرب تعاقب على منصب وزير الدفاع في حكومة النظام، خمسة أشخاص، أطاح الأسد بثلاثة منهم عبر تعيين بديل، بينما تعرّض أحدهم للاغتيال. هذه الأسماء تصدّرت المشهد العسكري في سوريا، وأوكلت لها مسؤولية إدارة المعارك العسكرية، ما أسفر عن دمار واسع في البنى التحتية، إضافة إلى نزوح ملايين السوريين داخلياً، ولجوء ملايين منهم أيضاً في دول مختلفة.
مفيدٌ ذكره أنه وبعد إقالة علي حبيب عام 2011، عيّن بشار الأسد العماد داوود عبد الله راجحة وزيراً للدفاع، ليكون أول مسيحي يصل إلى هذا المنصب منذ وصول حزب "البعث" إلى الحكم في سوريا، لكنه قُتل في تفجير استهدف مبنى الأمن القومي في دمشق، في تموز 2012، إلى جانب نائبه آصف شوكت صهر الأسد، وحسن تركماني رئيس "خلية الأزمة"، ورئيس مكتب الأمن القومي، هشام بختيار. بعد راجحة تولى فهد جاسم الفريج منصب رئيس هيئة الأركان، ثم خلفه أيضاً في الوزارة بعد مقتله، ليستمر في القيادة حتى عام 2018، بعدما عيّن بشار الأسد علي أيوب وزيراً للدفاع، الذي غادر بدوره وفي أرشيفه زيارة وحيدة معلَنة لوزير دفاع سوري إلى الأردن خلال الثورة، جرت في أيلول عام 2021. واليوم يصدر الأسد مرسوماً بتعيين اللواء علي محمود عباس وزيراً للدفاع، وفارق الرتبة العسكرية بين الأخير وأسلافه خلال الثورة، فتح باب التساؤل حول تدرّج الرتب للوصول إلى الوزارة، باعتبار أنّ الوزير لم يبلغ ذروة الهرم العسكري من ناحية الرتبة. حيث التراتبية العسكرية مطلوبة وتُحترم وفق قانون الخدمة العسكرية، لكن الظروف في سوريا تتيح للنظام تجاوزها، ليغير بشكل متكرر في صفوف قيادات مؤسساته العسكرية، ما يُترجم عبر تعيينات وإعفاءات ونقلٍ لضباط بين أفرع ومؤسسات عسكرية. وعباس الملقب بـ"القائد الفخري" لـ"الفرقة الرابعة" له تاريخ دموي بالطبع، حيث قاد الكثير من العمليات العسكرية على الأرض، ومنها هجومه على منطقة تل الصوان، في ريف دمشق، والتي أسفرت عن مقتل نحو مائة من عناصر وضباط وصف ضباط في قوات الأسد، ما لاقى انتقادات واسعة في أوساط الموالين للنظام السوري حينها. واليوم يأتي تعيين علي محمود عباس وزيراً للدفاع في وقت تغيب فيه المعارك التي واجهت أسلافه، مثل راجحة والفريج، فالعمليات العسكرية بعد فرض النظام سيطرته على مساحات سورية واسعة، لا تعدو كونها مناوشات واستهدافات متفرقة، وطلعات جوية متكررة تستهدف مناطق سيطرة المعارضة.
هذا السلوك السياسي "المتخبط" الذي بدا بوضوح خلال الثورة السورية، لا يشبه حالة الانسجام في عهد الأسد الأب مع منصب وزير الدفاع، والذي تبوأه مصطفى طلاس لأكثر من ثلاثين عاماً. ويؤكد خبراء أن طلاس كان دوره شكلياً، وحددت له مهمته في العلاقات العامة، حيث تكلف حافظ الأسد وضباطه الموثوقون بالتخطيط العسكري. في وقتٍ نقلت فيه وكالة الأنباء الفرنسية عن ضابط الاستخبارات الفرنسي السابق الخبير في الشؤون السورية، آلان شوييه، قوله "قام طلاس بدور محدود في وضع الإستراتيجية العسكرية للجيش السوري التي كان يحددها حافظ الأسد والضباط العلويون في الجيش". غير أن معارضيه كانوا يصفونه "بالرجل الثاني في سوريا"، وأنه متهمٌ رئيسي في مجزرة حماة 1982 التي نفذتها قوات حافظ الأسد بقيادة شقيقه الأصغر رفعت، وأوامر مباشرة من مصطفى طلاس. وفي مقابلة نادرة مع الصحيفة الألمانية دير شبيغل عام 2005، برّر طلاس الهجوم الدموي الذي تعرضت له حماة بقوله "استخدمنا السلاح للوصول إلى السلطة، وأيّ أحد يريد السلطة فعليه أن يأخذها منا بالسلاح". مشيراً إلى تنفيذ (150) حكماً بالإعدام أسبوعياً في دمشق وحدها في ذلك الحين.
لا شك أنّ الأسد يتخبط اليوم في المستنقع السوري، بينما يفتقد لحنكة والده السياسية، وكان على حدّ وصف معاصريه شخصاً "مهووساً بالمذاكرة وخجولاً وغير طموح وغير مهتم بالسياسة"، ووجدوا أنّ التاريخ لا بد أن يعيد نفسه على شكل كارثة جديدة يكرر فيها الابن فعلة الأب، حتى وإن كانت الظروف غير الظروف والزمن غير الزمن. ولا يغير من الأمر شيئاً ادعاء بشار الأسد بأنه إنما استعان بالإيرانيين ومليشياتهم، ثم بالروس، باسم الشرعية التي يفترض أنه ونظامه يمثلانها في سوريا. وإذا كان النظام برئيسه وتاريخه وسلوكياته على هذا النحو، فإنه يكون المسؤول الأول عن ظهور الإرهاب في سوريا كرد فعلٍ على إرهاب الدولة فيها، واستعانتها بالأجانب على ذلك. صفوة القول إن مأزق بشار الأسد، ومأزق سوريا معه، أنه انفصل عن الواقع تماماً، وورث هذا الانفصال مع وراثته للنظام. في الوقت نفسه هو انفصال واع، وتنكُّر مقصود بوهم حماية نظام سياسي لا يستطيع اكتساب قبوله من الناس، بل يفرض التعايش معه ومسايرته بأدوات الرعب والإرهاب عبر الرهان على حصانه المتوحش الرابح. وجرائمه، بالطبع، لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن نسيانها أو تجاهلها، لأن ذلك يعني ترك ألغام متفجرة للمستقبل يمكن أن تعيق أو تمنع قيام سوريا المدنية الديمقراطية، وإعادة بناء السلم الأهلي فيها.
ليفانت - عبير نصر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!