-
سيرة طريق بين الفرد والاحتلال الداعشي
غيبت المجتمعات الشرقية دور الفرد ككيان فاعل ومؤثر فيها، لمصلحة حضور الدولة والأحزاب والطوائف والتجمعات السياسية والعسكرية والدينية والثقافية، غير أن المجتمع هو تجمع أفراد وأحرار ذوي إرادات، لكل منهم أدوار وحقوق وواجبات. رغم ذلك بالمعنى العملي والتفصيلي للحياة في شمال شرق سوريا يعزز حضور الأفراد بأسلوب وطريقة جديدة تفرضها طبيعة مقاومة المجتمع للانتشار الداعشي، وتحقيق الذوات، مجتمعه ومنفردة، في خدمة هذا الحضور، عبر العديد من الشخصيات التي سرد سيرتها وفضائها جوان زكي سلو في رواية "سيرة طريق"، الصادرة عن منشورات مركز شوبدارين روجه للثقافة في العام 2020.
الفرد في محيطه:
يبني الروائي سلو فضاء روائياً معتمداً على ما يجري في شمال شرق سوريا، من حرب في سنوات الغزو الداعشي للأراضي السورية، منطلقاً من أرض مدينة قامشلو إلى مناطق التواجد والاحتلال الداعشي للمنطقة.
ويعتمد هذا الفضاء، قراءة المتاح المحدد من الصراع الذي كان دائراً على الأرض، من زاوية واحدة، من خلال الاعتماد على سرد أفراد في أماكن تواجدهم في مقاومة الوحدات والعناصر الداعشية في المنطقة.
بداية فضاءات السرد الروائي تكون عند شخصية عكيد من قرية "تل براك" الأثرية، جنوب مدينة القامشلي، التي لا تبعد سوى كيلو متر واحد شرقاً، فيقول: "سرنا نحوها راجلين، على أكتافنا تتدلى فوهات بنادقنا، آمالنا، وأغانينا التي ننشدها، نتابع بأعيننا آثار المدينة الموغلة في القدم، مدينة (نارام سين) الحصينة، بالدماء والانتصارات والتاريخ، فمنذ أن شق نهر الجغجغ سبيله في هذه التضاريس، حتى رسمت طريقها ملامحنا، وخلقنا كأشجار هذه الأرض الطيبة، وجعلتنا كآثار روحية حية، ما تزال تستنشق الحنين".
الشخصية الثانية الحاضرة كفرد في محيطها هي فاروق الذي كان رفيق الطريق من قامشلو، يتصاوب في أحد المعارك ويدخل المستشفى ويصف حضوره "العمليات الجراحية التي أجريت لي كثيرة، وبحاجة إلى متابعة مستمرة على مدار الساعة، وكوني لا أستطيع الكلام، بسبب العملية التي أجريت لفكي السفلي المتضرر جرّاء الانفجار، فقد كنت أتواصل مع من حولي بالكتابة، لأكتب ما يخطر على بالي". فالفرد عند شخصية فاروق موجودة مع جسده واسمه وفكره وآرائه ونتاجاته وآثاره وملابسه وشكله وقناعاته وخلفيته الثقافية والروحية والفنية "تعلمت شيئاً جديداً، هواية كانت فيما قبل مثار إعجاب لي، دون أن أسبر أغوارها، حقاً لقد أجدت عزف الموسيقا، لطول فترة الإقامة، كنت أمسك البزق، وأداعب أوتاره بريشة بلاستيكية، فأشعر بأنني أمزق نياط قلبي بنفسي، فعندما تتكلم قطعة الخشب، فاعلم أنها تهمس للحياة بقصة حب وأمل".
ويصف الروائي علاقته بفرهاد لحظات سرد قصته قائلاً: "صوته الرخيم، حين بدأت بالحديث عن نفسه، جعلني كمن يجلس أمام رجل، قد تجرّع مرارة السنين في يوم واحد، وتندر التجاعيد بأنّها ستجد طريقها في وجهه، بعد أن ينتهي من سرد قصته لي. وأنّ الساعات القادمة، ستحمل الكثير من الكلمات والأنين".
هذا الوصف للشخصية يعمق حجم ما قامت به الحياة على شخصية فرهاد بدفعها نحو خيارات أخرى، في اختيار اسم جديد غير الاسم الذي أطلقه أهله عليه "منذ أن أصبح اسمي فرهاد عشت فعلاً حياة أخرى غير التي كنت أعيشها حين كان اسمي ريان، فتلك الغشاوة التي كانت على عيني قد سقطت، عند تجرّأ الغرباء أن يخطوا أولى خطواتهم نحو أرضنا".
إنّ الإحساس بعملية الولادة من جديد تبدأ من الذات الفردية للانطلاق نحو فضاءات جديدة بعيدة كل البعد عن تلك التي عاشها الإنسان قبل الدخول إلى العوالم الجديدة على المستوى الذاتي الفردي، الذي يفتح للذات مستويات غير مطروحة في حياة الأفراد.
وأحياناً يرغب فرد أن يؤثر في المجتمع ويساهم في إعطائه ما يراه مناسباً، بحيث يمثل حالة إغناء وتنوع للمجتمع، فالمجتمعات الغنية والراقية هي بالضرورة مجتمعات مؤلفة من أفراد أحرار ومبدعين، وهذا ما حصل مع الروائي عندما كان يرغب في المغادرة إذ اتصل به نوري (ريبر تربه سبيه)، قائد الفوج، "إذا كان من الممكن أن تؤجل عودتك حتى المساء، فلدي من الجراح ما يكفي لهزيمة أعتى الذكريات".
ويسرد للراوي "حاولت لأكثر من مرة، أن ألوذ بمخاوفي وأنأى بها عن رفاقي، لكنني ودون قصد مني، أرتشف من أعينهم أنيناً لا ينتهي من الكلمات، فأصبح مجبراً على أن أجاري الأيام، وأقتنص منها كل اللحظات السعيدة أو الحزينة، وأجعل منها ضفيرة، أعقدها بأناملي على ناصية الزمن".
في كلمات ريبر انكماش للذات نتيجة الحساسية المفرطة إزاء المنبهات والضغوط الخارجية الصادرة عن المحيط.
داعش في الرواية:
يبدأ الروائي سلو توظيف وجود داعش في الرواية "كنت أتخيل وجوه وأفعال عناصر دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وأشباههم، وأقرأ عن المعارك والحملات التي قامت ضدهم، عن طريق الإعلام فقط، وأستمع لأقوال وشهادات بعض الناجين والهاربين".
ويصف وضعية الشعب السوري "منذ أن بدأ الصراع والقتال في وطني أصبحت الأرض السورية ميدان معركة كبرى، وكأنّها حرب عالمية ثالثة، كل القوى العالمية، الخيرة منها والظلامية، تريد أن تجعل لنفسها موطئ قدم، أما نحن، الشعب الذي يعيش عليها، فلا حول لنا ولا قوة، هرب منا من هرب، ولجأ من التجأ، ومات من مات، وبقي عليها من يستحق العيش والحياة أو حتى الموت".
ويكشف عكيد بداية المواجهات "كان المهاجمون الغرباء كمجموعة ضباع، تحاصر فريستها، قبل أن تهجم عليها كلها، استطعنا أن نصل إلى رفاقنا المحاصرين، بعد أن أردينا عدداً من المسلحين قتلى".
ويسرد حكايته مع القناص "راحت رصاصاته تقنص كل من يتقدّم نحونا، لتتهادى رصاصة من غادر نحوي، وتستقر في كتفي الأيمن، تبعتها رصاصة أخرى، سكنت أسفل بطني، فارتميت من فرط الوجع أرضاً، وسقطت البندقية من يدي".
ويكمل ما شاهد أثناء نقله إلى المجنزرة المصفحة "ما أذكره أنني لمحت جثث اثني عشر رجلاً ملتحياً، قد أحاطت بالمبنى الذي كان نقطتنا العسكرية".
ويصف فاروق كيف كانوا يحملون العربات بالأسلحة "إلا أن طنين تلك الطائرات الصغيرة المسيرة ظهرت فجأة كسرت شرودي، والتي كانت تحمل القذائف بأطرافها كطيور لأبابيل قادمة من الجحيم، ليغير ذلك السرب من مسلكه، ويبتعد بطيوره عن العبارة، وقتها، سقطت قذيفة من إحداها قريبة مني، ليدوي صوت الانفجار، ويرتفع خيط من الدخان والنار عالياً، تراقصت العبارة بعنف مع موجات النهر واضطربت. وإثر التفجيرات التي حصلت غرق المقاتل الذي كان بجانبي بدمائه بينما جسدي بات مرتعاً للشظايا الملتهبة، وتدحرجت قليلاً، وزحفت رغم جراحي صوب أسفل إحدى العربات، في صحوة لم تستمر إلا لثواني قليلة، ودخلت في غيبوبة طويلة، فتحت عيني لأجد نفسي في المستشفى".
أما في معركة مدينة تل أبيض الحدودية، في شمال سوريا، التي كانت تئنّ تحت حكم دولة الخلافة (داعش) وتنتظر دورها لتحرر من الإرهاب، كانت طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية قد قصفت تجمعاً للدواعش، وشتت شملهم، وتركت أمر القتال المباشر على الأرض لنا، فمقاتلونا أدرى بطبيعة المنطقة وبشعابها.
ويتحدّث فرهاد عن بلدة (معدسا)، جنوب منبج، بجامعها ومنبرها المنهار، شوارعها المعبدة التي اسودت ببقايا عجلات محترقة، كالموت، سياج المدرسة وشوارع البلدة الخالية ذات البيوت الطينية والحجرية.
ويصف رشقات الرصاص التي تشقّ نور الحدائق، متعالية مع صليات بنادق الكلاشنكوف، ودوي مدافع الهاون النباحة، في حين أنّ القذائف والصواريخ الهابطة من طائرات التحالف الدولي، تقصف مواقع تجمع المسلحين من تنظيم داعش، مخلفة عواصف هوجاء حارة، وتثير أكوام الأوراق اليابسة والغبار، فتلقيها على وجوهنا وتخدشها.
يوضح ريبر الدعوة لدخول قرية أم العمد في ريف منطقة الشهباء، شمال سوريا، لتحريرها من عناصر مسلحة تابعة لداعش وجبهة النصرة، والمخاوف التي انتابته لأنّ قيادة الحملة للمقاتل ريدور عفرين الذي كان مشهوراً ببندقية القناص (60m)، التي قنص بها في يوم واحد أربعة عشر داعشياً، وله صولات وجولات في تلك القرى، زرعت الخوف في قلوب هؤلاء المسلحين، وجعلت منه هدفاً لرصاصاتهم ومحط أنظار الجماعات المجرمة، فالمعركة التي خاضها ريدور عفرين مع رفاقه في تلك البلدة الصغيرة حين سقطوا في كمين محكم الإغلاق، ما جعلهم يلوذون بجدران المنازل، كي تحميهم من غدر رصاصات قادمة من فوق الأسطح الوطئية، هناك لم يجدوا حلاً سوى الانسحاب، إلا أنّ الضغط الناري الموجه ضدهم كان في أشدّه، ما منعهم من التراجع والتريث حتى يحين الغروب، وتحمل العواقب، حتى استشهد جل أفراد المجموعة، وريدور آخرهم، في حين بقى ذلك المقاتل يعاقر جرحه ويناجي القدر بالرصاص.
يودّع الروائي سلو شخصياته الروائية الحقيقية الذين استقبلوا روايتهم من جديد في كتاب ضم أوراقاً حية بصورهم، أفكارهم، ذكرياتهم، أحاديثهم، وحتى جراحهم، وحدها ابتسامتهم من كسرت ذلك الجمود المتيبس على تقاسيم وجوههم، ومنحتهم أملاً بالحياة.
ليفانت - بسام سفر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!