-
الجحيمُ "ورديٌّ" في حضنِ الوطن السوري
مقابل هذه الحقيقة المؤلمة لا تجد الحكومة السورية حرجاً من إطلاق مؤتمراتٍ "وردية" تحثّ اللاجئين على العودة إلى "حضن الوطن"، في وقت يسخر فيه السوريون من فكرة هكذا مؤتمرات، ومن السذاجة المطلقة التي ما زال النظام يعامل بها شعبه، وهو العاجز أصلاً عن تأمين متطلبات أكثر من خمسة ملايين نازح داخلياً، وحوالي مليوني شخص في المناطق المحاصرة التي يصعب الوصول إليها، حسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي تصنف سوريا بأنها البلد الأكثر إفرازاً للاجئين، لتؤكد أن 90% من السوريين لن يعودوا إلى بلادهم خلال الـ 12 شهراً المقبلة، وذلك خلال دراسة استقصائية أجريت مع (3201) من اللاجئين السوريين في كلّ من مصر والأردن والعراق ولبنان.
لاجئون لن يعودوا أبداً رغم الظروف الصعبة والمهينة التي يعانون منها، حيث يتقوقعون في أماكن غير آمنة وغير صحّية، ويشكون من الاستغلال عبر ارتفاع أسعار الإيجار والغذاء والدواء، ناهيك عن التحديات العديدة والمخاطر الطبيعية التي تواجه المخيمات بسبب الطقس وتقلباته. في سياق موازٍ، أكدت دراسة أجرتها منظمة "أوكسفام"، خلال سنوات الحرب الأولى، أنّ العديد من النساء يعانين من معدلات مرتفعة من الإجهاد العاطفي والنفسي، أيضاً تدفعهنّ الظروف القاهرة إلى ممارسة البغاء القسري والزواج المبكّر، والتعرض إلى أشكال أخرى من العنف القائم على الجندر.
بطبيعة الحال يتردّد لاجئون كثيرون في العودة إلى ديارهم، لخوفهم من تبعات القرار التي تفوق التحديات التي يواجهونها في الدول المضيفة، رغم بعض المستجدات السياسية التي تطرأ بشكلٍ مفاجئ لتغيّر من واقع الحال البائس. فمثلاً أدّى التدفّق الكبير للسوريين إلى الأردن إلى إنشاء مخيم الزعتري (في تموز/ يوليو 2012)، وتحدثت تقارير عدّة عن الأوضاع المشوشة والصعبة داخل المخيم. ومن الناحية النظرية، تمنع الحكومة الأردنية اللاجئين، رسمياً، من مغادرة المخيمات، وتهدّد مَن يغادرونها بإجراءات عقابية مثل حجب
المساعدات الإنسانية، ويقابل هذا الواقع الأليم اليوم عودة العلاقات بين الأردن وسوريا ما يبشر ببوادر انفراج سياسي واقتصادي بين البلدين، مع هذا فثمة نظرة تشاؤمية تسيطر على عدد كبير من اللاجئين، وثمة قلق حقيقي من مصيرٍ ينتظرهم رغم تطميناتٍ يطلقها النظام السوري عبر سلسلةِ "مؤتمراته الوردية" التي تجري برعاية حلفائه الأكثر براغماتية منه، إلا أنّ تلك التطمينات تتلاشى من خلال ما يسمعه اللاجئون عن بطشٍ واغتيالاتٍ مجهولة وخطفٍ وتعذيب لمن يعودون إلى بلادهم. والخوف يطال فئة الشباب، على وجه الخصوص، فبعضهم تحمله الضغوط المختلفة على الاستسلام والعودة بسبب المهانة الممنهجة التي يواجهها في بعض الدول، ليلقى مصرعه بسبب التجنيد الإلزامي أو النزاع في منطقته. قصص مرعبة ما تزال تزيد الطين بلة بين جموع اللاجئين.
ومع بقاء الأسد في سدّة الحكم، إضافة لانتشار الفوضى والدمار، تبدو آفاق عودة اللاجئين الطوعية بالغة الضآلة، نظراً إلى مساعي النظام المتواصلة لنقل السكان قسراً، وإعادة توطينهم وفق ما يقتضيه مزاجه السياسي العام، فالنسيج الاجتماعي في العديد من المناطق يتغيّر رأساً على عقب بحيث يتعذّر التعرف إليه، وهذه حال يبدي اللاجئون إزاءها قلقهم العميق، في حين لم تتخطَّ قضايا اللاجئين السوريين ذهنيّات الهيمنة والتقسيم والمهاترات ليتمّ وضع إشكاليّاتها الواقعيّة كأرضيّة لحلولٍ جدية تنهي هذه المعضلة المستعصية. على صعيد آخر، برنامج الغذاء العالمي، وهو أكبر منظمة إنسانية في العالم لمكافحة الجوع، قال في تغريدة عبر تويتر إنه وبعد عشر سنوات "نصف أطفال سوريا لم يعيشوا يوماً بدون حرب، ويُحرم الكثير منهم من التعليم، إضافة إلى المعاناة من سوء التغذية وقسوة الأحوال المعيشية، بينما خسر جيلٌ كامل مصاب بالندوب النفسية والروحية أحلامهم في مستقبل كريم".
وفي ظلّ هذه المعطيات تبقى الحقيقة الثابتة أنّ السوريين غدوا مجرّد أرقام تتحرّك على هامش العالم، فهم إما يحملون بطاقة إلكترونية في مناطق سيطرة النظام، أو بطاقة الأمم المتحدة للاجئين في مخيمات اللجوء، أو بطاقة إقامة في دول اللجوء. وتختزل هذه البطاقات حال السوري المتردي الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة من اليأس، رغم هذا فاللاجئ الذي هرب من الاستبداد والقمع، ورمى خلف ظهره ذلك الشرق الجميل الذي تحول إلى مزبلة، لن يعود إلى المربع الأول حيث المستنقع، بعد أن شقّ لنفسه مسارات حياتية ومهنية مختلفة، على صعوبتها، وأصبح يمتلك رؤية واضحة لأي سوريا يريد.
وليس نهاية قصة التغريبة السورية بالطبع الإعلان الذي انتشر مؤخراً: "أسهل وأسرع وسيلة للوصول إلى أوروبا هي رحلة مباشرة إلى بيلاروسيا". هذه "العبارة الوردية" تصدّرت مواقع التواصل الاجتماعي في الأشهر الفائتة، لتتضمن شرحاً مفصلاً عن تأمين السفر من سوريا على طيران أجنحة الشام، إلى مطار مينسك، بتكلفة تصل إلى أربعة آلاف دولار للشخص الواحد. إعلانات بدأت بسببها حكاية جديدة لمعاناة الهاربين من قاع الجحيم السوري، والذين تمركزوا على الحدود الواقعة بين بيلاروسيا وبولندا، وسط تصاعد الاتهامات الأوروبية لبيلاروسيا بافتعال الأزمة التي يدفع ثمنها اللاجئون أرواحهم، وكان آخرهم رضيعاً سورياً قضى في الغابة الحدودية في حين تمّ إنقاذ رجل سوري كان على وشك الموت.
تخيل المشهد التالي: "في خيم صغيرة والقليل من الطعام وفي ظلّ درجة حرارة دون الصفر يعيش آلاف اللاجئين العالقين على حدود بيلاروسيا، محاصرين بين القوات البيلاروسية من جهة، ومن جهة أخرى القوات البولندية التي أطلقت الغاز المسيل للدموع، وفتحت خراطيم المياه على مهاجرين يائسين حاولوا عبور الحدود من بيلاروسيا". ومع قسوة هذا المشهد، يأتي خطاب الكراهية والسياسات العنصرية لتضيف عليه أشكالاً جديدة من القهر والذلّ، إذ يستمر استغلال اللاجئين السوريين بمختلف الأساليب لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية حول العالم.
المدهش أنه، ورغم كلّ هذا الألم، ما يزال حلم سوريّي الداخل الخلاص من بلاد تعصف بها الأزمات الاقتصادية، وتنهشها الميليشيات الطائفية العابرة للحدود، لذا تبدو فكرة العودة طوباوية بامتياز، ولن تتحقّق سوى بمعجزة إلهية، وذلك بسبب الواقع الخدمي المتهالك للبلد الغارق في مستنقع الفقر والحرمان، كذلك الواقع الأمني الذي يكاد أن يصنف كلّ لاجئ بأنه مطلوبٌ لجهةٍ أمنية حتماً. ويشكك مراقبون في رغبة الحكومة، أصلاً، بعودة كثير من اللاجئين، عازياً ذلك إلى عدّة عوامل، بعضها "مرتبط بأسباب سياسية"، باعتبار أن بعض اللاجئين
يشكلون "بيئة مناصرة للمعارضة"، والبعض الآخر "مرتبط باعتبارات اقتصادية وخدمية". فاللاجئون حالياً يمثلون قيمة لا يمكن نكرانها في مداخيل الاقتصاد السوري من خلال تحويلاتهم المالية، والحكومة السورية بميزانيتها المنهكة لم تعد قادرة حتى على إعالة السوريين المتبقين في البلاد، ما يجعل الرؤى حول مستقبل سوريا يقيّدها جوٌّ من الإحباط السائد في أوساط اللاجئين.
ليفانت - عبير نصر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!