الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • الثقافة السياسية ودورها في تحقيق الانتقال الديمقراطي

الثقافة السياسية ودورها في تحقيق الانتقال الديمقراطي
جاد الله الجباعي

تعبّر الثقافة السياسية عن منظومة الأعراف والمعتقدات والرموز والقيم والاتجاهات والمشاعر السائدة نحو شؤون السياسة والحكم في مجتمع معين، وعن مدى رسوخ هذه القيم والاتجاهات والأعراف في نفوس الأفراد، والكيفية التي يرى هذا المجتمع من خلالها الدور المناسب للحكومة وآلية ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والفرد.


وتحمل الثقافة السياسية إرث التجربة التاريخية للشعب بمختلف حيثيّاتها، وترتبط جدلياً بالثقافة العامة للمجتمع، رغم استقلالها النسبي عنها، ما يجعل للثقافة السياسية دوراً محورياً في تحديد شكل التحوّل، أو الانتقال السياسي الممكن للمجتمع المعني وإمكانيّة بناء تصوّر ذهني محتمل عن آفاق مستقبله، حسب نوع الثقافة السياسية للقوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة، وما تنطوي عليه من مشاعر واتجاهات ومعتقدات ومعانٍ للعملية السياسية، ومدى إيجابية هذه القوى ومبادرتها ومشاركتها وتقبلها لمشاركة الآخر المختلف في العملية السياسية على قاعدة الحق المتساوي لجميع المواطنين في تدبير الشأن العام، على اختلاف حمولتهم الأيديولوجية وعلى اختلاف منابتهم الاجتماعية أو انتماءاتهم الإثنية، أو سلبيتها وإحجامها عن تقبل المشاركة.


ويكتسب بناء الثقافة السياسية الديمقراطية وإنماؤها، دوراً مضاعفاً في دول التغيير المؤجَّل ومجتمعات الحداثة المترددة، كالمجتمع السوري، ويتوقّف نجاح أو تعثّر عملية الانتقال الحقيقي من النظام الشمولي التسلطي ودكتاتورية العسكر، إلى نظام ديمقراطي تشاركي على حداثة الثقافة السياسية للمجتمع بشكل عام، وثقافة نخبته السياسية بشكل خاص، وعلى مدى انفتاحها على التجارب الإنسانية وتمثّلها لقيم الحرية والمواطنة والتعددية والديمقراطية، وقدرتها على تجديد ذاتها والقطع مع أنماط الثقافة السلطوية الموروثة وأنساقها المعرفية السائدة والانفلات من أسرها. وذلك بالانفتاح على ثقافة الشباب الذي أطلق ثورات الحرية والكرامة، التي خلخلت الثوابت القديمة لعلاقات الاستبداد، القائمة على السلبية وثقافة الخوف والخضوع. 


فقد فتحت المجال السياسي العام للمشاركة السياسية، وفتحت الفضاء العمومي أمام قوى المجتمع المدني الحية، وكسرت احتكارهما من قبل دولة السلطة الشمولية التي عسكرت الدولة والمجتمع، وسدّت الأفق أمام أي مشاركة حقيقية لقوى المجتمع في الشأن العام، وعممت الثقافة التقليدية المنكفئة على ذاتها بهوياتها المغلقة، وأيديولوجياتها المتعصبة، وطابعها السلفي، ومخزونها العنفي، تحت شعارات الخصوصية العربية أو الإسلامية، التي عمّقت خطاب “المظلوميّة” القومي أو الديني الطائفي والتفسير الأيديولوجي للتاريخ وفق “نظرية المؤامرة” القائمة على تبرئة الذات واستعداء العالم.


وأطلقت العنان لأذرعها الأمنية وميليشياتها “المقاومة” وأطرها الحزبية التقليدية، المنحدرة أصلاً من ثقافة الريف وهوامش المدن، لتعميق ثقافة الولاء والخضوع من خلال سيطرتها على جميع مؤسسات الدولة (كالتعليم والإعلام وقطاعات المال والأعمال…) وتحويل القطاع العام الوظيفي إلى منظومة فساد واستعباد متكاملة، تقتل روح التفرّد والحرية والإبداع والمنافسة الإيجابية والروح الوطنية، وتزرع ثقافة الخضوع والوصولية، لتنتج عبيد الدولة وجماهير الحاكم. كما عملت على تحويل منظمات المجتمع المدني الوليدة ( النقابات والاتحادات والجمعيات…)، إلى منظمات رديفة للحزب الحاكم، وأفرغتها من مضمونها ونزعت استقلالها وألحقتها بدوائر السلطة والحكم، وحولت نقباءها ورؤساءها إلى فهلوية يجيدون اللعب على ثغرات القوانين وتملّق الحاكم واستعطائه، لاستدرار “المنح والمكرمات”، بدل أن تقوم بدور الرقابة على تجاوزات السلطة وتقويم أدائها، بكونها مؤسسات دفاع عن حقوق ومصالح أعضائها بالأصل.


ولا غرابة مع هذه الحالة، أن نلحظ غياب فاعلية هذه الأطر، بل سلبيتها في أحداث الثورة السورية، وعجزها عن الدفاع عن حقوق بعض أعضائها الذين تعرّضوا للملاحقات الأمنية أو الاعتقال التعسفي أو الفصل من العمل الوظيفي، بسبب انخراطهم كأفراد في المظاهرات السلمية أو مشاركتهم في الوقفات الاحتجاجية، أو حتى لمجرد توقيعهم على بيان سياسي أو تدوين على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يستدعي المقارنة بين دور هذه المؤسسات في سورية، ودور مثيلاتها في تونس والسودان، على سبيل المثال.


لقد كشفت ثورة الشباب ومآلاتها، عن غياب أو هشاشة الثقافة السياسية الديمقراطية في المجتمع السوري، الذي عايش الثقافة السلطوية وعلاقات الاستبداد والقمع، واستمرارها لوقت طويل، وكشفت عن تدني المنظومة القيمية والأخلاقية لتلك الثقافة، ما جعل الفرد أكثر تحملاً لوطأة الاستبداد والقمع والقهر بصفة عامة، وأقل جسارة وحسماً في الانفلات والتحرّر من أطر المجتمع التقليدي والانتماءات الأولية (كالعائلة الممتدة والعشيرة والطائفة) وهويات ما قبل الدولة. وتكريسه لتلك الانتماءات كحصون حماية فعلية أو وهمية في ظلّ غياب القانون العام وتغوّل السلطة الأمنية على الدولة والمجتمع.


وهو ما دفع الفرد إلى التماهي مع المستبد وتمثّل قيمه والتعبير عن الولاء والخضوع لحكمه، بالانتحال الرمزي لسلطته من خلال تمثّل قيمه والتزيّي بزيّه العسكري ونقش صورته على الزيّ، سواء عن نفاق نفعي، يتقن أساليب الوصولية، أو كتعبير غير واعٍ عن حالة نكران مرضي في نفسية الفرد، والنكوص إلى الحالة القطيعية بالعودة إلى الانطواء ضمن الأطر والانتماءات الأولية التي تشكل ملاذ حماية طبيعي، يعزّز بدوره كل القيم السلطوية القائمة على الولاء والخنوع، للسلطة الاجتماعية أو الدينية أو السياسية، التي تعزّز السلبية وتقتل روح الفردية ولا تعترف بالتعدّد والاختلاف، ولا تقيم عدلاً ولا مساواةً بين الأفراد، بشكل عام، وبين الذكور والإناث، بشكل خاص. الأمر الذي يفسّر وجود ما بات يعرف “بالكتلة الصامتة”، ويفسّر وجود التحاجز والتنابذ وغياب إمكانية الحوار العقلاني المنتج، بين الأطراف السياسية والاجتماعية، وصعوبة الانتقال أو التحوّل الديمقراطي في ظل انحدار القيم الأخلاقية والجمالية، وارتفاع معدل العنف وانزلاق المجتمع إلى الاحتراب الداخلي الذي سهل الاختراق، والتدخل الخارجي الذي زاد بدوره الأمر تعقيداً، وقلّص أفق الانتقال السياسي في المدى القريب، على الأقل، إلى مجرد التفاوض على وقف الحرب وتثبيت الهدن بين جبهات مشدودة إلى موازين القوى وقابلة للانفجار في أي وقت، وأعاد تعويم الرموز السياسية والاجتماعية وثقافتها التقليدية التي لا ترى في الآخر المختلف غير صورة العدو، ولا ترى في صورة المهادن الحاليّ غير عدوّ محتمل.


الثقافة السياسية ليست معطىً ثابتاً في تاريخ أي مجتمع، وثقافة الخضوع والولاء، التي تعزّز علاقات الاستبداد والتسلط السياسي والاجتماعي والديني، ليست قدراً محتوماً على السوريين أو غيرهم من شعوب العالم، إلا بمقدار سلبيتهم وتقبلهم لتلك العلاقات وإعادة إنتاجها، والاستمرار في تبرير عجز الذات بقوة المستبد وصلفه وهيمنته على مصادر السلطة، والمعرفة في زمن ثورة التكنولوجيا ووسائل التواصل والاتصالات. وكأننا ننتظر أن يسعى المستبِدّ لتقويض سلطته ومصادر قوته بمحض إرادته. فعلاقة الاستبداد علاقة بين طرفين على الأقل ككل، ولا يمكن أن يستمر الاستبداد إلا بوجود طرف مستَبِدّ وطرف آخر قابل للاستبداد.


إنّ الثقافة السياسية للمجتمع ونخبته يمكن أن تنتج علاقات الاستبداد والقهر وسرديات المظلومية التي لا تنتج غير حرية العبيد (حرية العبد في اختيار سيده)، كما يمكن أن تنتج علاقات المواطنة والحرية التي تقوم على نفي الظلم والعبودية عن الجميع، وعن الآخر المختلف، أولاً. والثقافة السياسية الديمقراطية لا تقوم بدون الاعتراف بحق الاختلاف وتمثّل قيم الحداثة والتنوير وحرية استخدام العقل و”خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه بحق نفسه” حسب تعبير كانط، وطاعة القوانين العامة التي يضعها الشعب بدلاً من طاعة قوانين المستبِدّ، حتى ولو كان “عادلاً”، ولا يكون المستبد عادلاً إلا بجعل الأفراد جميعاً متساوين في انعدام القيمة الإنسانية.


لقد رفع الشباب السوري، كغيره، شعار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وشعار “الشعب يريد”، وجعل من وحدة الشعب السوري عنواناً آخر لثورته، كتعبير رمزي عن غياب أو نقص مضمون الشعار في الواقع المعاش، وعن وعي أولي بالحاجة إليه وإلى ضرورة تحقيقه، مما وضعه في مواجهة قمع السلطة الشمولية وبطش آلتها الأمنية والعسكرية، ومصالح الدول الإقليمية والدولية المرتبطة بها، من جهة، وفي مواجهة سلبية الجزء الأكبر من المجتمع السوري وثقافته السياسية التقليدية، التي تقوم على الطاعة والامتثال والخضوع والانغلاق على الذات، والجهل بقيم الآخر المختلف وحقّه بالاختلاف من جهة ثانية، وثقافة النخبة السياسية التي لم تخرج عن ثقافة المجتمع التقليدي وثقافة السلطة السياسية السائدة من جهة أخرى. الأمر الذي يترك الجرح السوري مفتوحاً ويترك الانتقال أو التحول الديمقراطي معلّقاً إلى أن يعبِّر الشعب السوري عن إرادته الحرة ويفصح عما يريد.


ليفانت -جاد الله الجباعي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!