الوضع المظلم
الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
‎نعم لــ
هدى سليم المحيثاوي

غورباتشوف الذي أعلا فكرة التماسك الاجتماعي كأهميةٍ تأتي مباشرةً بعد البناء الاقتصادي للدولة من أجل النهوض، نراها في نظرةٍ للدول الناجحة حالياً، غذاؤها وماؤها الاقتصاد والبناء الاجتماعي، وماسواها كماليات ونسبي.

الدول الخارجة من شروخ اجتماعية تنهش نسيجها، لن يكفيها الاقتصادُ سبيلاً للنهوض، فرواندا مثلاً والتي صنفها صندوق النقد الدولي أحد الاقتصادات الأسرع نمواً في العالم على مدى العقد الماضي كاملاً، ويعد البنك الدولي رواندا من أفضل الأماكن لبدء نشاط تجاري في إفريقيا، لتصبح بموجب من بين الاقتصادات العشرة الأكثر نمواً في عام 2013، اعتمدت بجانب النظام الاقتصادي، نظام الكاغاغا (مجلس الحكماء) لعلاج العطب الذي تغلغل في الجسد الرواندي، لنصل في العام 2021، أي بعد 27 عاماً فقط بأن تزوج والدة ابنها لابنة قاتل زوجها.

بحسب النظريات السياسية المتعلقة بالنزاعات والحروب الأهلية، هناك أربعة عناصر، لابدَ من توافرها لإعادة السلم الداخلي الوطني، للبلدان الخارجة من النزاعات والحروب الأهلية، وهي: الأمان والاستقرار، الانتعاش الاقتصادي، الديمقراطية وبناء الدولة، إلاَ أنَنا يمكننا أن نقول أنَ الأمان والاستقرار مع الانتعاش الاقتصادي، هما الركيزتان اللتان ستؤسسان للعنصرين الآخرين، الديمقراطية وبناء الدولة.

هناك ظاهرةٌ يمكنني تسميتها بالصور الذهنية، التي يقدمها البعض، فتصدقها الغالبية، كصورة العلوية السياسية التي طرحها المفكر السوري صادق جلال العظم، وحلف الأقليات الذي يطرحه الاقتصادي السوري غسان عبود في كتابه الذي صدر مؤخراً، الحلم السوري وحلف الأقليات، هي صورٌ وإن كان القصدُ منها هو الوقوف على أسباب المشكلة، إلاَ أنها ومن غير قصد، تُرَسِخ لفكرةٍ بغض النظر عن صحتها من عدمه، إلاَ أنه من الممكن تجاوزها للتركيز أكثر على مقومات البناء وحل المشكلة بدلاً من البحث في أسبابها.

إنَ البناء لا يمكن أن يتم من خلال التركيز على تحليل الأسباب بل على تقديم الأطروحات القابلة للتطبيق، ففي لحظات الانتقال الكبرى، نحتاج إلى تكريس كل الجهود للبناء، البناء فقط، وإقصاء كل ما يمكن أن يعيقه.

فصورة الحلم بدولةٍ سوريَة لا يمكن أن تتفق مع صورة حلف الأقليات، فإذا أردنا صورة الحُلم، وجبَ التخلي عن صورة حلف الأقليات، فاستجرارُ الحديث عن نفس المشكلة القديمة المُتجَددة سيُبقينا في الدوامة التي اختصرها الكاتب اللبناني حازم صاغية بوصفه: "إنَ النقد الشيعي إذ يركز على الماضي الظالم لا يَعِد الحاضر بغير الرد الانتقامي، وأيضاً إذ يركز النقد السني على الحاضر الظالم، فإنه نادراً ما يفتح كوةً غير انتقامية للمستقبل".

الراحل العظم لم يُوَضح معنى الصورة التي طرحها بحد ذاتها، بقدر ما حاول إسقاط المارونية السياسية عليها، التي سقطت، ولكن وللأسف، إن كان إحدى تجليات سحق المارونية السياسية هو تطويبُ منصب رئاسة الورزاء لمسلمٍ سني من خلال اتفاق الطائف، فهو لا بدَ وأنه الانتصار المُبكِي، وحالُ لبنان يشهد.

اعتمادُ صورةٍ معينة، سيجعلها فكرة، لتأخذ من خلال مناقشة أبعادها مرجعيةً لتفسير الكثير من القضايا، فتنقلبُ فجأةً حقيقة، لذا لا بدَ والحذر حين تقديم أية صورةٍ جديدة.

وهنا لا أُرى النظام من وجهة نظرٍ طهرانية طائفية، كما ذكرها الكاتب السوري ماهر مسعود في مقاله "حول العلوية السياسية ونقادها"، بل العكسُ تماماً، فالأنظمة الديكتاتورية هي أضيق حتى من الانتماء الطائفي أو أي انتماء، فهي تنتمي لنفسها ونفسها فقط، ولا غيرها مقدس ولا حتى أفراد عائلة، لا أظن أنَ المؤسسات السورية، وكلمة مؤسسات هي اصطلاحية، حيث لم توجد خلال الخمسين عاماً في سوريا، لكن عملها في سوريا لم يتعدَ مستوى الشللية والعائلية والمناطقية في أوسع حالاتها، التي سادت أيضاً في جميع مؤسسات الثورة التي ظهرت.

السؤال المُنقذ لسوريا ولجميع دولنا العربية، هو السؤال الذي طرحه حازم صاغية في مقاله "السنية السياسية والشيعية السياسية" وهو: "هل نصل إلى يومٍ يدور فيه إشكالنا الأساس على إقامة مجتمعاتٍ سياسية لا يحكم فيها السنة الشيعة، ولا الشيعة تحكم السنة، بل أن يتقدم الجميع من الشأن العام بوصفهم مواطنين؟".

علَنا نهتدي لرؤية تُؤسس للإجابة على هذا السؤال.

احتماء العلويين بنظامهم لا يعكس بالضرورة أنَ النظام كان علوياً، فغالباً لا بد للناس من مرجعية يحتكمون إليها ويشعرون أنها قادرة على حمايتهم، وذلك ليس حكراً عليهم فقط، بل ظهر ويظهرُ بين الدروز الذين ينكفؤون على مرجعيتهم الدينية وكذلك السُنة، الذين يحتكمون للجوامع ولكبار الفقهاء، وذلك أيضاً ليس بالغريب، فهو انعكاسٌ لما يمكن أن يحدث في أي دولةٍ لاتسودها المواطنة، وبالتالي تظهر هذه المرجعية، عندما يعجز الدستور والقانون عن حماية مصالح الناس، ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق أنَ النظام سخَر نفسه لحماية مصالح العلويين على اختلاف مواقفهم، بل بقي على نفس النظرة التي تحكمه، وهي تقديسُ الطوطم وإلاَ هذه ال وإلاَ التي سَرَت على جميع من عارض هذا النظام من كافة الطوائف.

لا أحد يمكن أن يمتلك حقوقاً في دولة الديماغوجية، حتى من يقدم فروضَ الطاعة ويُسَبِح بحمدها يُنعَم عليهم ببعض المكرمات، ولكن ليست حقوقاً، فلا حقوق وواجبات في هذه الدولة، فلا دستور ولا قانون يحكم.

السرُ الأكبر في تحول الدول إلى دول حضارية وقوية، هي القطيعة الواضحة والصريحة مع الماضي بكل مافيه، ولم ولن تقوم قائمة لدولة اصطكت باجترار الماضي.

في إشارةٍ إلى مجموعة رباعية الإندو باسفيك المعروفة باسم الكواد (الولايات المتحدة الأمريكية-إستراليا-اليابان والهند)، قال وزير الخاريجة الأمريكية: "مايلفتُ النظر، أنَ هذه المجموعة من البلدان التي لم يجمعها ما نحن ضده، ولكن مانحنُ من أجله".

هذه الجملة، وغيرها من أفكار الجمع لا التفريق، لا بدَ من تصديرها بصورٍ تُطرح في الواقع السوري، ليس لتُخفي ماتحتها، بل لتتوسع مساحتها فتكون نواةً تؤسس لمستقبلٍ سوري.

بالتأكيد يمكن أن يُصلِح الاقتصاد ما أفسده السياسيون، ولكن ليس لوحده، فإعادة تماسك النسيج الاجتماعي وترسيخ القيم الإنسانية وكما قال غورباتشوف: "الرخاء الاقتصادي يجب أن يترافق مع التماسك الاجتماعي والاستدامة sustainability الإيكولوجية، فأيُ خيرٍ في المال الكثير إذا كان النسيج الاجتماعي مُدَمَراً والبيئة ملوثة، وسيتوقف المستقبل على تمكننا من إيجاد إدغام بين القيم الإيكولوجية والليبرالية والاجتماعية".
 
‎نقطة فارقة لصالح الاقتصادي غسان عبود ومنذ الصفحة 277 في كتابه، يمكن البدءُ ببثِ الحياة في شريان المستقبل السوري، فالنظر للحلول وكيفية البناء هو سبيلُ الخلاص، من هذه الصفحة يمكننا الانطلاق، لتبقى فكرة المدن المُستأجرة التي طَرحها الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل بول رومر والتي يؤيدها عبود، بحاجةٍ ماسة لأن تُدَعَم بقيمٍ إنسانية اجتماعية حتى تتحقق الركيزتان الأساسيتان اللتان يمكن لهما أن تؤسسا للديمقراطية وبناء الدولة فيما بعد، في واقعنا السوري.

ليفانت - هدى سليم المحيثاوي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!