الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
هويّة المجلس الإسلامي السوري
عمار ديوب

أصدر هذا المجلس منذ عدّة أيام "وثيقة الهوية السورية". جاءت الوثيقة مختصرة ببنود خمسة، ويَفترض هذا أنّ هناك أمراً جللاً استدعاها. فلماذا هذه الوثيقة؟ الجلّل ذاك كما يبدو، حديثٌ سوريٌّ يتصاعد حول الدولة الوطنية وأن تتشكّل هوية السوريين وفقاً لها، أولاً وأخيراً؛ فلا هي أممية ولا قومية ولا إسلامية ولا أيّ صفة أخرى سوى أنّها تستند إلى المواطنة وحقوق الإنسان، وبالتالي، هي محاولة جديدة لتشكيل الهوية، وهناك من يشترط بذلك ويدعو إلى أمة سورية. هذا ما يبدو أنّه أثار زعماء ذلك المجلس، ومن خلفهم جماعات دينية عديدة، فتشاوروا في ليلٍ، وحدّدوا للسوريين، المسموح والممنوع؛ فما تتضمنه الوثيقة هو الحق ودونه الباطل، حيث ورد في مقدمة البنود أنّ المجلس يرفض "محاولات البعض "التشويش والتدليس والتلبيس على معالم الهوية السورية". المجلس الإسلامي


البنود الخمسة تتحدّث عن أنّ الإسلام دين غالبية الشعب السوري، وسوريا جزء من العالمين، العربي والإسلامي، واللغة العربية هي اللغة السائدة والرسمية في سوريا، والثقافة والقيم الحضارية -القصد الإسلامية- هي معرفات الهوية السورية، والمكونات التاريخية، الثقافية والدينية، مكونات أصيلة، وحقوقها مصانة مضمونة، وحرياتها متناغمة مع الهوية الأصلية؛ هذا باختصار شديد.


المجلس يؤكد أنّ هناك هوية أساسية لسوريا يُشكلها المسلمون، وهويات أصيلة أخرى "يمكن تأويلها كأهل ذمة مثلاً" يَضمنها المسلمون لهم. تأكيد الوثيقة على اللغة العربية كسائدة ورسمية، أي وحيدة، هو هدرٌ إضافي للنقاش السوري المستفيض عن اقتراح شمول الدستور للتعددية القومية واللغوية، وبالتالي البند هذا، مع بند دين الأغلبية يُشكل منظوراً رجعيّاً، ويمكن القول إنّه يضع العراقيل، وهي كثيرة، أمام تحييد الدين عن الهوية بالمعنى السياسي. الأمر عينه حينما يعرف البنود الهوية بالمكونات التاريخية، وكأنّ الهوية صيغت مرة واحدة وإلى الأبد. تأخذ الهوية الوطنية قوتها من حدودٍ رُسمت للسوريين، ومن إعلاءٍ قديم للهوية الاسلامية والعربية، وكانت حصيلة الأخيرة أنّها تحولت إلى أيديولوجيا وثرثرة كاذبة، بدلاً من تنحيتها عن مجال الهوية والسياسة، واعتبارها قضية ثقافية بامتياز، وضمن ذلك يمكن إجراء نقاشات نظرية عميقة عن علاقة سوريا ببقية البلدان العربية، وبما يعزّز مصالح كل شعب على حدى. تعزيز يقارب أهل سوريا مع العراق مع سواها، وفي ذلك يمكن الاستناد إلى العروبة والكردية والآشورية... ولكن دون أن تكون القومية، هي مرجعية المصالح أو السياسة المباشرة، فتضيع حقوق المواطنين، كما جرى من قبل.


إنّ اختلاف السوريين حول الإسلام أو العروبة أو القوميات أو الأقليات، لم يعزّز النهوض العام ولم يحصدوا منه إلّا الصراع الفاسد والقتل والدمار والتهجير والتبعية للدول الخارجية وتشويه الهوية الجامعة، بينما إذا اتفقوا على هوية تستند إلى الحقوق العامة للأفراد والمصانة عبر الدولة، يمكن أن ينهضوا بمصالحهم ودولهم، وبالتالي تصبح الثقافة الإسلامية والعربية وسواها قادرة على إغناء النقاشات الفكرية والثقافية والاجتماعية، وبما يفتح للتواصل مع المحيط "العربي والإسلامي" ودون تضحية بالوطني، وهذا يعني أنّ مصدر السياسة أو الدولة أو الدستور، يكون بتمثيلٍ أكبر لحقوق المواطنين، ووفقاً لقيم لمواطنة وحقوق الإنسان بكل مجالاتها.


مفهوم الأغلبية والأقليات، طُرِح قبل الثورة، وهي مسألة قديمة، وتعود إلى بدايات تشكل الدولة السورية، أي منذ بداية القرن التاسع عشر، وما زالت تقض مضاجع السوريين، وإذ يتمسك بها النافذين في تلك الأغلبية، و"مكونات" المجلس الإسلامي، والجماعات السياسية الدينية، فإن بقية السوريين، يميزون بين الديني والعام، فالديني تمييزي بينما العام يقتضي أن يكون لصالح كل السوريين.


إنّ سوريا لم تطوِ بعد الخلط بين التمحور حول هويتها الوطنية بالمعنى السياسي ونزوع بعض تياراتها السياسية خارج حدودها، بدلالة الدين أو القومية أو الأممية، والنزعة القومية لدى أكراد سوريا مثلاً أقوى مما هي لدى العرب، لاعتبارات كثيرة، وليست هذه المقالة مخصصة لها، وبالتالي إنّ التركيز على حقوق الكرد والسريان أو الآشوريين أو العرب يجب ألا يتعارض مع المشروع الوطني العام، أي تحقيق مسألة المواطنة وإنشاء نظام ديموقراطي والنهوض الاقتصادي والتعليمي والثقافي وقضايا أخرى. لا يمكن للمشروع الوطني هذا أن ينطلق من القومي وإلا سقطنا في المنظور القومي لرؤية الأحداث وأهدرنا حقوق المواطنين، وكذلك ليس من الديني، وحينها سنرى السوريين أغلبية وأقليات دينية متحاربة، وبالتالي الخيار الوحيد والجامع هو الوطني العام، وفي هذا الإطار يجب تعزيز مختلف أشكال الحقوق للأفراد.


إذاً علينا تحييد الهويات الفرعية، ومهما تفاوتت أغلبياتها وأقلياتها، ووضعها في ثلاجة الثقافة والنقاش المعرفي، والاستناد إلى المواطنة وحقوق الإنسان، وتوسيع هذه الحقوق وشروط المواطنة، كي تتجاوز البعد الليبرالي فيها، وتُساوي بين الأفراد، وهذا يقتضي دراسة موضوع الملكية الخاصة وتحديد مجالات عملها، وبما يعطي للدولة دوراً كبيراً تحديد كيفية مساهمة القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية، وبما يحفظ للأغلبية المواطنية حقوقها، وضمن مفاهيم المساواة الفعلية وعدم الاكتفاء بالحديث عن الحقوق المجردة.


المجلس أعلاه، وبشمول بنوده "أن سوريا جزء من العالم الإسلامي"، وكأنّه يقول إنّ سوريا خارج العالم ويحيط بها فقط العرب والمسلمين، ويقول بذلك إنّ تركيا ليست محتلَّة لقسمٍ من سوريا، والفصائل السورية التابعة ليست "عميلة، وبضعها مرتزقة" لصالح تركيا. وعدا ذلك إنّ تأييد المجلس للتدخل التركي في شمال سوريا يوضح "التشويش والالتباس والتدليس" بخصوص وطنيته، التي نناقش بعض أوجهها هنا، بينما كان يُفترض بالمجلس أن يندّد بالتدخل الاحتلالي ذاك وبكل احتلالٍ آخر في سوريا، ويُعلي بذلك من شأن نفسه، ويتقدّم برؤية إسلامية تتجاوز الشأن الديني القديم، لصالح بناء هوية وطنية يتمثل فيها كل السوريين. ينطلق المجلس في بنوده من رؤية ضيقة ومحدودة، في فهمه للهوية وللسياسة بعامة، ولهذا أوضحت ضرورة تحييد الدين والقومية عن بناء الهوية الوطنية بالمعنى السياسي.


سوريا تحتاج، وقد أتمّ الصراع فيها عامه العاشر، إلى بناء هوية جامعة، تتعالى على الديني والقومي، وتحصر الأخيرات في الشأن الثقافي والروحي، والأخيرات صارت أغنى وأكثرية تعددية من هذين الاعتبارين. لا يمكن لسوريا أن تدخل بالديني أو القومي إلى العصر الحديث؛ وكي لا نبدو وكأننا نساوي بين الديني والقومي في سلةٍ واحدة، وهذا غير صحيح، فإنّ القومي يجب ألا يتعارض مع الوطني، وأن يكون الأخير منطلقاً للقومي وليس العكس، العربي وغير العربي، وألا يكون القومي هو مرجعية السياسة، والدولة والدستور والحياة السياسية بعامة.


السوريون ليسوا أمة مستقلة بذاتها، وهم عرب وغير عرب، وكذلك بقية الشعوب العربية، ولكن بناء دولة لصالح الأفراد السوريين يقتضي منهم تشكيل هويتهم الوطنية، واستناداً إلى مفاهيم المواطنة وشرعيات حقوق الإنسان، وإقرار حقوق إضافية لتنطلق من العدالة الاجتماعية والنهوض بالاقتصاد الوطني، "الصناعي والزراعي أولاً"، وبما ينسجم معها تتحرّك بقية أوجه الاقتصاد "تجارة ومال وخدمات". المجلس الإسلامي



عمار ديوب


ليفانت - عمار ديوب  

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!