الوضع المظلم
الخميس ٢٨ / مارس / ٢٠٢٤
Logo
هوس الشهرة
إبراهيم أبو عواد 

إن الطبيعة البشرية قائمة على حُب الأضواء، ونَيل الإطراء والثناء، والحصول على الشُّهرة. والإنسان يطمح أن يُشار إليه بالبنان، ويُصبح أشهر مِن نار على عَلَم (جبل). والإنسان اجتماعي بطبعه وغريزته، وابن بيئته. ولا يَقْدِر على التحرر من أثر بيئته وتأثير الناس حَوْله، سواءٌ أرادَ ذلك أَمْ لَمْ يُرِدْه. وهو يعتبر اهتمام الناس بِه تقديراً لحياته، واحتراماً لفكره، وإشادةً بإنجازاته.

لكن المشكلة حين تتحوَّل الحقيقة إلى وهم، وتُصبح الشهرة غايةً قائمة بذاتها، يُبذَل في سبيلها الغالي والنفيس، ويتم اعتبارها هي الكمال المُطْلق للإنسان، وبدونها لا معنى لوجود الإنسان. وهذا الهوس الجنوني بالشهرة هو مرض مُكتمل الأركان، ووهم قاتل، ورغبة مُتماهية مع الخرافة.

ومِن الأمثلة على الهوس الجنوني بالشهرة، وبلوغه مرحلة الكارثة والانهيار الإنساني الشامل، حادثة رواها الإمام ابن الجوزي (510 هـ _ 597 هـ) وقعت أثناء الحج في زمانه، إذْ بينما الحُجَّاج يطوفون بالكعبة، ويغرفون الماءَ مِن بِئر زَمْزَم، قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان مِن الحُجَّاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلَّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: قبَّحك اللَّهُ، لِمَ فعلتَ هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، يقولون: هذا فُلان الذي بال في بئر زمزم.

وهذه القصة قد تبدو سخيفة أو تافهة، ولكن دلالتها الرمزية في غاية الخطورة، فقد أرادَ هذا الأعرابي الشهرة وجلب الأضواء إليه بأية وسيلة، فما كان مِنه إلا أن قام بفِعلته الشنيعة، كي يَشتهر أمره بين الناس، وتصبح قصته على كل لسان. وكما قِيل: "خَالِفْ تُعْرَفْ". وهذا الأعرابي ذو المعرفة الضئيلة والثفافة السطحية، لا يملك إنجازات عِلمية أو إسهامات أدبية تُفيد مجتمعه، وتخدم أبناء بيئته. وهذا العجز الذي يَغرق فيه، جعله يُوقِن -في قرارة نَفْسِه- بأن أسهل وسيلة للشهرة هي القيام بعمل غريب وشاذ. وبالتالي، لفت الأنظار إليه، وخُلود ذِكره، دُون بذل أي مجهود. وهذا الهوس الجنوني بالشهرة يقودنا إلى عبارة شديدة الخطورة والرمزية للكاتب الفرنسي ألبير كامو (1913_ 1960 ): أقصر طريق للشهرة أن تقتل صاحبة العمارة التي تسكن فيها.

وهذه ليست دعوة للقتل وارتكاب الجرائم وإنما هي عبارة ساخرة قائمة على الكوميديا السوداء. وبعض المهووسين بالشهرة يرتكبون الجرائم البشعة كي يُعرَفوا، ويُصبحون ذائعي الصيت، خصوصاً أن الناس يُتابعون باهتمام بالغ قضايا القتل والفضائح وأحداث الجرائم التي تهز المجتمع.

وفي هذا السياق، تأتي حادثة اغتيال مُغَنِّي فرقة البيتلز جون لينون (1940_ 1980)  ففي 8 كانون الأول / ديسمبر 1980. وعندما كان لينون عائداً إلى منزله في نيويورك، اغتاله مارك ديفيد شابمان بإطلاق النار عليه من مسدس في ظَهْره. وكان القاتل قد صرَّح بأنه قام بقتل جون لينون، لشدة إعجابه به وبفرقة البيتلز. وأشار شابمان إلى أن قتل لينون كان "قراراً رهيباً"، وأنه كان يظن أن قَتْل شخص مشهور، سوف يَجعله ذا شأن، لكنه بدلاً من ذلك جعله قاتلًا. وحُكم على شابمان بالسجن مدى الحياة . والعجيبُ أن شابمان لَم يهرب من موقع الجريمة، بل انتظر وصول الشرطة للقبض عليه. لقد خطَّط لهذه الجريمة بعناية وتركيز، واختارَ اغتيال شخصية مشهورة، كَي يصبح مشهوراً على مستوى العالَم، ولا هدف له إلا الشهرة.

ومِن الشخصيات العالمية المشهورة التي يُلاحقها المهووسون، وتُعرَف بكثرة المعجبين بها، الممثلة الأمريكية جودي فوستر. ففي عام 2008 اعْتُقِل رَجل من ولاية ماساتشوستس الأمريكية، بعد توجيهه رسالة خطية، هدَّد فيها بتفجير مطار لوس أنجلوس، وذلك من أجل لفت أنظار الممثلة جودي فوستر، التي كان يقتفي أثرها مُنذ عام 2004.

وهذه القضية أعادت الأضواء إلى ما حصل قبل أربعة عقود من الزمن، عندما لاحقَ جون هينكلي الممثلة جودي فوستر، وهو شخص مهووس بالشهرة والمجد الوهمي، وكان عاشقاً مُتَيَّماً بجودي فوستر، ومهووساً بها إلى حد الجنون، وحاولَ الوصول إليها بكل الوسائل والسُّبل، ولكنه لَم يستطع الوصول إليها ولا الاتصال بها. فما كان منه إلا أن وضع سيناريوهات عديدة مثل اختطاف طائرة أو الانتحار أمامها حتى يَلفت نظرها، ويَحصل على اهتمامها. ثم ظن أنه سيفوز بقلبها إن قام باغتيال الرئيس، باعتباره رمزاً مهماً، وبقتله سيصبح ندًّاً له، وبطلاً قومياً.

وفي آذار 1981، قام هينكلي بإطلاق النار خارج فندق في واشنطن على الرئيس رونالد ريغان( 1911_ 2004 )، مِمَّا أسفرَ عند إصابة الرئيس بطلق ناري في الرئة. وقد كان هدف هينكلي من محاولته لقتل الرئيس ريغان هو لفت نظر جودي فوستر، والفَوز بقلبها، والحصول على اهتمامها، ونَيل الشهرة على المستوى العالمي. وهذا الأمر يدل بوضوح على أن الهوس الجنوني بالشهرة والمجد الزائف، يُعمي البصر والبصيرة معاً، فيفقد الإنسان تركيزه واتِّزانه، ويُصبح آلة ميكانيكية عمياء، وقد يقوم بأيَّة جريمة دون التفكير في عواقبها.

ليفانت - إبراهيم أبو عواد 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!