الوضع المظلم
السبت ٠٩ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
هل يمكن الشعر أن يؤرخ مأساتنا؟
ثائر الزعزوع

في مناخ الفوضى الإعلامية الذي نعيشه و يحكمنا منذ أكثر من ثماني سنوات، فقد الكثيرون الثقة في وسائل الإعلام، وحتى تلك العريقة منها، بسبب الخلل الهائل الذي طرأ على عملها، ما بين ترنح مواقفها أو حتى ميلها إلى طرف ومحاربتها طرفاً، أو ثبوت فشلها في أن تلعب دوراً توثيقياً أقله لما يحدث دون تسييس و دون أجندات. بدا، والحالة هذه، أن ما مرت به سوريا والسوريون من خراب و دمار قد يطويه النسيان، بمجرد مرور سنوات مقبلات، قد تحمل تغييراً، فليس أسهل من التبرؤ من تقرير تلفزيوني، أو من مقالة، أو حتى من بحث و تحقيق استقصائي تم إنتاجه في وقت مضى، إذ يكفي تغيير إدارة تحرير مؤسسة ما، لتحمل معها ما صار يُنظر إليه على أنه خطأ، طبعاً حال طرأ تغيير على سياسة الداعمين، هناك أمثلة كثيرة على تلك التقلبات، وعلى ذلك الضياع لذاكرة المأساة. ثم إن تراكم المآسي و زيادة حدة ما يأتي وقسوته، سوف يحول تباعاً ما حدث من قبل إلى حدث طارئ، رغم أنه ليس كذلك أبداً، فكل ألم و كل تهجير وكل موت وكل اعتقال، هو حكاية قائمة بذاتها، ويجب الحرص على التأريخ لها، أقله لتكون إجابة في مستقبل قريب أو بعيد، عما حدث في تلك البلاد المسماة سوريا، سواء أفشلت ثورتها أم نجحت.




و هنا يأتي دور الأدب تحديداً، ليكون مؤرخاً أميناً، دون أن يكون مدفوعاً من قبل “داعمين” يديرون بوصلته حيثما يشاؤون، وقد نتج حتى الآن كم لا بأس به من الأعمال الأدبية و الفنية، بمجهودات فردية أحياناً، استطاعت أن تقدم للقارئ تفاصيل عما حدث هنا أو هناك، طبعاً سوف لن يخلو المشهد من بعض التكتلات والتجمعات التي تكونت في هذا البلد أو ذاك، لتكون أشبه بمزاد علني لبيع المواقف، و بيع الشعر أيضاً. ألم يكن الشعر وعلى مدى قرون “تجارة” تباع وتشترى؟

لكن الأصوات المنفردة، تلك فقط هي من حملت المأساة و رسمت ملامحها، دون أن تتأثر سوى بمشاهد الموت اليومي، والقصف اليومي، والتهجير اليومي، والنزوح اليومي، وبأصوات أنين المعتقلات والمعتقلين، و الأهم من كل ذلك أن الأدب لا يحتاج إلى ميزانية لتمويله، وإن كان النشر، في الكثير من الأحيان، صعباً، لكن ثمة حلولاً ليست مكلفة على الإطلاق.




صدرت على مدى السنوات الماضية عشرات الروايات، إن لم نقل المئات، و كثير من المجموعات الشعرية، والنصوص المسرحية، كان بعضها يميل إلى التوثيق، بسبب فداحة ما حدث في سوريا، و كان ذلك على حساب الخيال والتخييل، وربما استسهل الكثيرون اللعبة ليكتبوا أي شيء، لقارئ يتعطش لقراءة المختلف، و الذي كان على مدى عقود طويلة ممنوعاً، فالحديث عن السجون والمعتقلات، وكذا الحديث عن تدمير أركان السلطات سياسية و دينية و اجتماعية، كل ذلك شكل عامل جذب مهماً للكتابة عنه وتحطيمه، و أمام هذا الكم لا بأس من التأمل في: إلى أين ذهب الأدب؟ طبعاً لن أدعي في هذه المقالة بأنني ناقد أدبي، فأنا لست كذلك، لكن لا بأس من أن يتوقف كل منا أمام النصوص التي قرأها و يحاول محاكمتها، بعيداً عن ذلك الانحياز العاطفي، و الافتتان المبالغ فيه أحياناً بـ”ثورة الكرامة” فليس كل ما كتب عن الثورة يرقى لأن يكون أدباً، كما أن الكثير من الفن الذي أنتج تحت مسماها، لا يرقى لأن يكون فناً، وإن لم يمتلك السوريون الحس النقدي للقول عما لا يعجبهم، حتى وإن كان ثورياً، بأنه لا يعجبنا، فنحن نعيد تباعاً صناعة لعبة النفاق التي أحكمت سطوتها على حياتنا الثقافية، وأنتجت الكثير من الأسماء الهزيلة، والتي كانت السلطة تدفع بها إلى الواجهة على حساب الأدب الحقيقي. أسماء استثمرت “القضية الفلسطينية” مثلاً، تحت مسمى الأدب المقاوم، فتحول كل صراخ إلى أدب، مع أنه ليس أكثر من صراخ.




وقد وقعنا في هذا الفخ أيضاً خلال السنوات الفارطات، يقف شاعر في قاعة مليئة بالمصفقين الثوريين، يصرخ ويصرخ حتى تبح حنجرته، والجمهور الثوري يصفق ويصفق حتى تتورم أكفه، والنتيجة لا أدب ولا هم يحزنون لكن حفلة صراخ و تصفيق، ولا مانع من القول بعد ذلك أمسية شعرية ثورية.




وصلتني منذ أيام مجموعة شعرية للصديق الشاعر كمال جمال بك، المنفي في السويد، يؤرخ كمال للمأساة دون صراخ، يوثق الحدث السوري المؤلم بصوت الشاعر الذي لا ينتظر التصفيق من أحد، يؤرخ لتلك المأساة لأنها توجعه، و تخنقه، وتحضر سوريا كلها في قصائده المحتفظة بإيقاعها، من الزبداني و حتى البوكمال، يحضر الحدث بدمويته ولا معقوليته... “جسر الضلوع... وهذه قصيدتي”. يحضر فيها الشعر كثيفاً، ولا يتوارى خلف “الثورة” ومفرداتها. الشعر لدى كمال جمال بك يحمل الثورة والمأساة السورية، ولا تحمل الثورة الشعر.

لهذا تساءلت هل يمكن الشعر أن يؤرخ المأساة.


صحفي سوري

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!