-
هزيمة السوريين المستمرة
قالت روزا لوكسمبورغ، أشهر ثائري العالم، المولودة في الإمبراطورية الروسية والمُغتالة في ألمانيا عام 1919: "إنَ الثورة هي النشاط الإنساني الوحيد الذي يمكن أن نحقق نصراً فيه عبر سلسلة من الهزائم".
تستمر هزيمة السوريين منذ ما بعد الثلاثة أشهر الأولى لثورة عام 2011 وحتى لحظتنا هذه، فبعد الوجه المشرق الذي أضاءته في المستقبل السوري المظاهرات السلمية، بدأ الواقع بالتحول إلى سوداوي بشكلٍ متدرج، نتيجة الهدم المستمر وعدم حدوث أيَ بناءٍ بالتوازي، يؤسس لذلك المستقبل الذي وعدت به الثورة في بداياتها، ومن خلال شعاراتها، الحرية والدولة المدنية، والشعب السوري الواحد والموحد.
السوريون من الجهتين، المعارضة والموالاة، لم يفارقوا حالة الاصطكاك التي خُلِقت مع انطلاقة الثورة السورية في العام 2011، حيث علق من آمنوا بالثورة مع كل المنتجات التي ظهرت بعدها، تبريراً منهم أنها منتجات الثورة، فلا بدَ أن تكون مُحِقَة ونظيفة، أما من كَفَرَ الثورة وعارض قيامها، بحجةٍ أو بدون، فقد علق بما كان سائداً قبلها، بل وازداد تمسكاً وتبجيلاً له، على أنه اليقين الذي نشأ عليه، فلا بدَ أنَه الأصدق والأكثر وطنية.
ومما لا شكَ فيه أنَ غرق الفئة التي آمنت بالثورة، جعل الآخرين يتمسكون أكثر ويتملصون من أي خيطٍ رفيعٍ يمكن أن يربط بين الجهتين، حتى لو كانوا أخوةً من نفس الأب والأم، فالسوري أُعيد تعريفه ليكون موالياً أو معارضاً.
هذا الاصطكاك لا يمكن رده إلا لحالة إنكارٍ للواقع المُعاش، ليس من باب عدم الشعور به وبحجم كارثيته، فحتى غير السوريين والدول البعيدة جغرافياً عن سوريا، شعروا بالهزة التي حصلت فيها، لكن من باب الشعور بعدم القدرة على التعامل معه. وذلك يعود لسببين:
-إما الإحساس بعدم المسؤولية، ونرى فئة كبيرة لا ترى إلاَ أنَ المجتمع الدولي هو المسؤول عن هذا الوضع، وبالتالي هو مَن يجب عليه أن يبادر.
-إنَ هناك فئة تتحمل مسؤولية ما حدث، وتشعر أنَ السوريين هم من يجب أن يبدؤوا، لكنهم هم أنفسهم لا يعرفون من أين يبدؤون.
بالنسبة للنقطة الأولى، لا يمكن أن نقول إنَ المجتمع الدولي تخلى عن مسؤولياته اتجاه سوريا والشعب السوري، لأنه لم يتبناها يوماً، كما لم يتبنَ حقوق شعبٍ أو مآسيه في تاريخه، فإفريقيا عجت بالمذابح في القرن المنصرم، وعلى مرأىً من عيون العالم جميعاً، فرواندا ومجزرتها الراسخة في التاريخ ستبقى علامة سوداء بحق المجتمع الغربي، مما دعا فرنسا إلى الاعتذار عن عدم تدخلها واعترافها بتقصيرها بعد ما يقرب الـ 34 عاماً من حصولها، ولا أدري إن كان وصف "أنَ فرنسا كانت غافلة" عن الاستعدادات للإبادة، هذا إذا تجاوزنا أنَ جذور الحقد يعود لتغذيته من قبل الاستعمار البلجيكي وزرعه فكرة تفوق التوتسي على الهوتو وتمكينهم في الحكم، لينفجر على شكل مذبحة عام 1994، كافياً لنا كسوريين، لنستخلصَ منها ونتنبأ بما يمكن أن نسمعه من مصطلحاتٍ تحاول الدول بها تخفيفَ وزر سكوتها عن الدم السوري وغيره من دماء.
أمَا في النقطة الثانية، ففي حقيقة الأمر إنَ القرار الأممي فعلياً حتى وإن كان هدفه إنهاءُ سلطة، وهو ليس كذلك بل يقوم على الشراكة، لكنه عموماً لن يصنع مشروعاً لبناء وطن، فهذا فعلاً حِملُ السوريين وحدهم.
المشكلة مع السوريين، أنه كان هناك تصوراً أن الدولة المدنية وباقي الشعارات التي حملتها الثورة، ستحِلُ بين ليلةٍ وضحاها بدَل تلك الدويلة المافياوية الموجودة، إلاَ أنه وفي الحقيقة، فإنَ حالة الهدم أو لحظة التغيير بينما تحصل في لحظة أو خلال وقتٍ ليس بالطويل وغالباً ما يكون جذرياً، أمَا البناء فهو مختلف، يحتاج لوقتٍ طويل، ولا يمكن أن يحدث إلا تدريجياً، وإن لم يترافق الهدم مع حالة بناء سنبقى ندور في حلقةٍ مُفرَغة، فالهدم يحصل في وقتٍ قصير أما البناء يحتاج ربما إلى عقود حتى نرى ثمرته، خاصةً إذا كان العَطَب والخَلَل على جميع المستويات وفي جميع المجالات.
لذا نرى البعض يتباكى على زمن الطغاة، الذين عملوا على بناء عوالهم، بأدق تفاصيلها، وكأنهم جميعاً اعتمدوا على نفس المنهج، منهج (كيف تُصبِح طاغية)، فبعد الاستيلاء على السلطة، تأتي خطوة سحق المنافسين ومن ثم الحكم من خلال الإرهاب، حتى تأتي خطوة السيطرة على الحقيقة، بناء مجتمع جديد بكافة تفاصيله، من شعارٍ موحد وزيٍ موحد وحتى تحيةٍ موحدة، ليتربعوا على عرش السلطة من خلال هذه العوالم، ولايمكن وصفها بأوطان، فهي ربما تَصغر كالائتلاف والهيئات التي صُنِعَت بعد الثورة أو تَكبُر ككثيرٍ من الدول ليس فقط سوريا والعراق.
بدايةً، لا بد البدء من نقد الثورة، وهذا لن يحدث إلاَ إذا تم خلعها من الإطار التأليهي الذي وُضعت فيه، وبعيداً عن الأوصاف التضخيمية، كأعظم ثورة وما تعرض له السوريون من ظلم، فصفة القدسية والتموضع في درجةٍ أعلى من النقد، هي سمةٌ دائماً ما يستخدمها الطغاة لمنع انتقاد أنظمتهم.
ثم.. لا يمكن أن تتوقف هزائم السوريين وسوريا، والبدء بالبناء، إلاَ إذا تم العودة للواقعية ورفض سياسة الأمر الواقع، فالأولى تُتيح تغيير المواقف لكنها لا تساوم على المبادئ، بعكس الثانية التي دفعت بالمعارضة والكثير من الناشطين للتخلي عن المبادئ التي خرج السوريون من أجلها في ثورة 2011. لنرَ أنَ الواقعية السياسية اُستبدلت بسياسة الأمر الواقع، في مشهدٍ يُوحي أنَ نفسَ من خرج رفضاً للاستبداد والفساد ودفع ثمناً لهذا الرفض، يقبله لكن من سلطةٍ غير سلطة النظام القائم. ليصبح تعيين الائتلاف لبدر جاموس رئيساً لهيئة التفاوض انتخاباً، والشمال السوري بانتهاكات المليشيات التي تُسيطر عليه وبعض المناطق المحتلة فيه محرراً.
بدءاً من القضية الفلسطينية وليس انتهاءً بالقضية السورية، كثيرٌ من الأحداث أصبح ينطبق عليها سياسة الأمر الواقع، وحتى عالمياً كالغزو الروسي لأوكرانيا والاحتلال التركي للواء إسكندرون وعسى ألا يكون المزيد، والإسرائيلي للجولان، جميعها قضايا لم وربما لن يتم حلها، بل وضعها المُراد لها أن تبقى بلا حل، لتكون من بين الملفات المُساوَم عليها ليس إلا، ولا شك أنَ لا أحد يرغب بأن تصبح القضة السورية في نفس الحال.
الواقع يقول إنه لا بدَ من البدء بإنشاء مشاريعَ اقتصادية أينما تتوافر لها بيئة مناسبة، فكما قال غورباتشوف: "إنَ عظمة الدولة تبدأ بقوتها الاقتصادية ثم تأتي قوة تماسك فئاتها الاجتماعية"، وآن لنا الأوان أن نُميز بين (البَلد سوريا) لأنه من المُبَكِر الحديث عن الدولة وبين النظام.
لا بد من إعادة إيجاد محدداتٍ جديدة للانقسام، تُنهي حالة الانقسام الحالية، فلا بد أن يكونوا من يريدون بناء دولةٍ سورية حقيقية، بعيداً عن النظام، وبعيداً عن مؤسسات ما بعد الثورة، فكلاهما يجب التخلي عنه، في صفٍ واحد، وهم مَن يمكن التعويل عليهم لبناء البلد السوري، أمَا الدولة السورية فتحتاج إلى عقودٍ من الترتيب والبناء، فخذوا نفساً عميقاً وأعدوا أبناءكم ورسخوا الفكرة لديهم بأنَ عليهم بناء هذه الدولة.
ربما لن ينطبق قول لوكسمبورغ علينا، لأن الهزائم تعني المحاولة، ولكن تكمن هزيمة السوريين في عدم المحاولة أصلاً.
فالمشهد الطاغي في الحالة السورية هو الاستسلام، دون أي محاولةٍ لصنع بداياتٍ جديدة كالتي شهدناها في الثلاثة أشهر الأولى، ولا يعني ذلك المظاهرات تحديداً، فالمظاهرات هي وسيلة من وسائل التعبير عن الرفض، إلاَ أن ما يجب أن يُعاد هو الرغبة في التغيير وكسر الخوف الذي ساد ذلك الوقت، الأمل الذي خُلِق رغم المعرفة التامة للخصم الذي يواجهه السوريون.
خلق شباب 2011 فرصةً لم تُستَغل للتغيير، لكنَ الفرص يجب أن تُخلَقَ مرةً أخرى، بحسب معطيات الواقع الحالي، فالبناء هو محاولات عديدة، تختلف باختلاف الواقع والمعطيات لكنها يجب ألَا تتوقف، ورغم أنَ الثورة هي جذرية بطبيعتها، لكنَ البناء لا يمكن أن يكون كذلك، بل هو تدريجي ومستمر لا يمكن التوقف فيه.
ولعلَنا نفكرُ كثيراً في سؤال غاندي: "هل نُقاتل لنغير الأحوال أم لنعاقب سوانا؟".
ليفانت - هدى سليم المحيثاوي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!