-
من كنا عايشين الأسدية إلى التهكمية المعارضة.. جمهور الفيسبوك وفاعلية الهشتاغ الثوري
موقف
تنهض بشدة كل فترة موجة ترند #كنا_ عايشين التهكمية السورية وتخبو خلال أيام. يمكن القول إنها على ثلاث نسخ، مؤيدة للثابت في وجه خطورة و"مجهول التغيير" والداعي له، والمعارض السلبي الذي يجد نفسه كثيراً أو قليلاً في كلا الاثنين السابقين. هذه الموجة وعقابيلها، تمكّن المتابع المهتم من ملاحظة الخلاف والاختلاف على واقع شاركت في إنتاجه قوى الثورة بأنواعها إلى جانب سلطة الأسد. لم يتغير شيء في الثنائية المستقطبة (مع ضد) مع طرف ثالث يحاول أن يوازن بين خطاب كل طرف ضمن أصحاب الموقف نفسه ضمن الخط المعارض نفسه أيضا إضافة إلى خطاب الجمهور الحيادي والمعارض للمعارضة والتغيير.
في التمني واشتراط (لو) قال سوريون كثر معارضون ومؤيدون يا ليت هذه الثورة لم تحدث بأي تصور أو اشتراط. يا ليت الأسد عمل على الإصلاحات التي وعد بها قبل أن تتطور الأمور ويهب الناس ضد سلطة البعث الحاكم في تظاهرات واحتجاجات انحرفت عن مسارها السلمي بضغط عنف السلطة وتمويل إقليمي وإقصائية إخوانية. كتب الشاعر والمعارض السوري منذر المصري نصاً عنوَنَه "ليتها لم تكن" أحدثت زوبعة في ذلك الوقت من ديسمبر 2016.
يقول المصري: "أعلم أنه لا معنى لها، فما حدث قد حدث، ولا يقولها سوى إنسان لا علاقة له بالسياسة ولا حتى بالمنطق، أعلم أنها لا تقدم ولا تؤخر، لا تضر ولا تفيد. بل، يرى البعض أنها تؤخّر وتضرّ. تضرّني أنا دون سواي، فهي بالنسبة لي أشبه بجلد للذات".
ليت لم تهدم المدن السورية الأعزّ، ولم تبد بلدات وقرى سورية لم نكن نعرف أسماءها.. ليت لم تهدم حميدية وخالدية حمص، وخانات وأسواق حلب، حلب مأساة القرن الواحد والعشرين، سمعت بإحدى الأقنية التلفزيونية العالمية.. ليت لم يتهدم جسر دير الزور الذي كان مرسوماً على الليرة السورية التي هدمت بدورها.
(ليتها لم تكن).. أزفرها مع المكلومين، ومع الأيتام، والمشردين، والغرقى.. مع أربعة ملايين سوري يعانون ضنك العيش في مخيمات الذل والهوان.. (ليتها لم تكن).. أزفرها مع البسطاء الخائفين، الذين لليوم لا يعرفون ماذا سيكون مصيرهم ومصير أبنائهم.
من نافل القول أنه يجب قراءة هذه الاقتباسات في سياق البدن الكامل لنص منذر المصري المتوفر على الإنترنت، ووقت كتابتها ونشرها. لقد أضاءت هذه الزفرات الحزينة في نصه بشكل أكثر علانية ووضوحاً حول مقاربة تتعلق بميزان الربح والخسارة أمام نظام مستعد لكل شيء وقوى إقليمية وخليجية كانت مستعدة لإغراق البلاد بالسلاح بشكل اعتباطي وعشوائي بقصد أو من غير قصد. وقتذاك، كان ينادي قادة الجيش الحر ويستغيثون ليَحضروا على رأس قيادة العمليات وتنظيمها، لكن الكفة لم ترجح لمصلحتهم فأُخرجوا من المشهد وبقي مئات الفصائل على الأرض والقيادة السياسية في تركيا لا تمون على أحد..!
في ذلك الوقت ومع عسكرة الحراك الشعبي وخروج القرار من أيدي السوريين معارضة وثوار بالمعنى السياسي بالدرجة الأولى، بسبب كثرة الفصائل وتعدد الداعمين، بدأ العديد من شخصيات وقوى المعارضة بالتريث وإعادة حساباتهم ولجم عواطفهم ومَنطَقة آمالهم وتطلعاتهم. بقي من بقي مع الثورة المسلحة حتى آخر سوري، واعتزلها آخرون بعد تسجيل المواقف العلنية. لقد أصبح واقع الحال عند النظام أنا أو لا أحد، وعند الجمهور الثوري النصر أو الشهادة مدفوعاً من قياداته السياسية القاصرة والفاشلة التي ترفل مع عائلاتها خارج دائرة الموت.
منذ ذلك الوقت بدأ السوريون يعبرون عن هذا الاصطفاف بقوة تجاه الثورة/الانتفاضة السورية، بل ذهب كتاب ومفكرون لبحث لفظ الثورة ومطابقته لمسيرة الشعب المنتفض حتى تاريخ ذلك الوقت، فذهب كتاب ومثقفون كالمعارض والمعتقل السابق الأستاذ محمد سيد رصاص لتسميتها بالانتفاضة، إذ يبدو لي أنه وضعها في سياق تأطير زمني يبدأ ما بين شرارتها الأولى إلى حدوث إجماع معقول بنظره وغيره أنها فقدت زخمها وأصالتها بعد سنتين أو ثلاث سنين ولم يعد مفهوم الثورة الكلاسيكي يحتمل مآلات الواقع على الأرض والفضاء السياسي المرافق لها خارج البلاد الذي يفترض أن يحتويها بمقدار معقول.
تاريخ الهاشتاغ
على صعيد الجمهور السوري الثوري الفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد رد للمرة الأولى مع بداية عام 2015 وعلى وجه الخصوص في شهر أيار، على تيار دعائي يقوده أجهزة الأمن السورية، إذ يذكّر بالأيام الخوالي في مقارنة بين "عهد داعش وجبهة النصرة" الثورييًن بشهادة بعض قيادات المعارضة الحي منهم والمتوفى وكثير من جمهور الثورة آنذاك! وبين أيام اللولو في عهد الأسد الابن، بل وصولاً إلى عهد الأسد الأب.
لكن علينا أن نكون حذرين فكما لم يكن محقاً كل من عارض وطعن بوطنية منذر المصري وقتذاك بسبب جملته الشهيرة التي قالها بحرقة وألم في سياق يكمن شرحه في نصه، فكذلك ليس كل من قال كنا عايشين إذا ما قالها في موضع ما يُرمى بالحجارة!. آنذاك، كان الزمن والحدث له أثره والاندفاع والغضب عند كثر مؤقتا عندما قرؤوا (ليتها لم تكن) فعاد كثر لخطاب أكثر اتزاناً وبقي من بقي حتى النصر بنفس المنطق والأدوات ومن خفف من حماسته فقد كان فات الآوان على إحداث تأثير وأصبح الجيمع متفرجا.
هناك شريحة تغوص في نوستالجيا وادعة وهانئة ما قبل الانتفاضة السورية، تقارن الماضي بواقع لا يفترض أن يكون موجودا، كان الأسد وسلطته سبباً رئيساً في صناعته، بل تحضر مقاربتهم في إطار ثنائية بشار وما بعده أي زمن "الثورة السوداء" ثنائية إجبارية دون حضور خيارات أخرى في المفاضلة. بينما يجب المقارنة بين زمنه وماذا يمكن أن يكون لو أنه فعّل سكة الإصلاحات التي وعد بها على سبيل المثال، بلد بلا سرقات وفساد.
يمكن تفنيد الهراء الذي خرج به جمهور السلطة المؤيد أو ذاك الذي على الحياد من الطبقة الوسطى والميسورة والغنية(البرجوازية) في المدن الرئيسية في البلاد، إضافة إلى ذلك التكتل الأقلياتي بخصوص محكية #كنا_عايشين التي انتشرت منذ أن بدأ إعلام النظام الرسمي يستقطب سياسيين لبنانيين ليعطوا جمهوره دورساً في حسنات العيش في ظل الدكتاتورية وبين الواقع الدموي العسكري آنذاك. كانوا يعلكون عن الإصلاح وصعوبته في الأزمات، مع الآمال وذر الرماد في العيون بأن الحسم قادم، نعم خلصت!. فاستمر السوريون كل حين وآخر بالتذكير بتفاهة هذا الطرح ومغالطته، ليقدموا برامج وحلقات ساخرة في أنواع محتوى متعددة نصاً وصورة.
لكن الاحتراب بين قوات النظام وميلشيياته وبين فصائل المعارضة استمر، كان موسم الهجرة يتعاظم إلى أوروبا ويجد كثير من الناشطين السوريين على الأرض أو في دول الجوار ملاذاً آمناً نهائياً لينشطوا من خلف شاشات اللابتوبات بحملات الهاشتاغات لدعم مقاتلي الفصائل ضد النظام وهو أضعف الإيمان بنظرهم.
لاقى هاشتاغ كنا عايشيين الذي أطلقه المعارض فراس الأتاسي، في أيار2015 حضورا قوياً ومؤثراً بين الجمهور السوري، تناولته صحف وشبكات أخبار دولية.
وجاء إطلاق الحملة التي تتلخص بكتابة ذكرى سيئة أو مؤلمة قبل بدء الانتفاضة السورية لدحض محكيات إعلام النظام الرسمي والبديل، متزامناً مع الانتصارات العسكرية المتتابعة التي يحققها الثوار على امتداد الأراضي السورية كما يقول الأتاسي لموقع الجزيرة في 9/5/2015 وعربي 21 7/5/2015. مشيراً إلى أن "أتباع الطابور الخامس في مثل تلك الأوقات يخرجون ليبثوا التفرقة بين الناس انطلاقاً من مبدأ فرق تسد".
كانت الذكريات الحزينة والمؤلمة كثيرة تلك التي كُتبت في تغريدات على التويتر وبوستات على الفيسبوك، وكانت جرعة التندّر والتهكم حاضرة بقوة في بوستات وتعليقات السوريون العاديين منهم والنشطاء المنخرطين بالشأن العام، على الرغم من الموت القادم من قصر المهاجرين وإيران ومن السوريين أنفسهم بل ومن بقاع كثيرة حول العالم.
كانت مسحة تشاؤمية تخيّم على الجميع بالرغم من ما تصوّره شريحة واسعة من السوريين بأنه انتصارات ميدانية وفراس أحدهم، فلا حظر طيران حصل ولا خطوط أوباما الحمراء نفعت ولا جنيف أورقت مع أنّ النظام فقد كما قلنا سابقا أجزاء كبيرة من سيطرته على البلاد. لدينا الآن، أي آنذاك، ساحة معركة جديدة في فضاءات المنصات الرقمية للتواصل الاجتماعي نطلق الحملات بهاشتاغات في لفظة أو عبارة أو صورة أو ميميز تعبيرية، نمارس التندّر والتهكم والسخرية ونكتب الذكريات لأننا نحتاج للتنفيس، لإننا ضعفاء ومقهورين، لكن كان البعض حقوداً وأنانياً فدعم وبرر لجبهة النصرة باعتبارها فاعلية ثورية، أو حتى من كان مرائياً منافقاً يبرر لداعش ذاك الذي كان يكتب للتلفزيون ويضحكنا بأعماله.
انتهت تلك الحملة، وأصبحت المفهوم متداولاً للسخرية لكنه فقد زخمه بطبيعة الحال كما فقد كل السوريين حماستهم واهتمامهم أي ممن هم خارج البلاد نازحون ومهجّرون ولاجئون ومهاجرون. تتلمس ذلك من خلال مستوى فاعليتهم كمجموع/حشود/كتل كما يقول إلياس كانيتي أو مجموعات في بلادهم التي وصلوا إليها.
يبقى هناك استثناءات على صعيد فردي، لم نر السوريين ونخبهم في أوروبا بمجموعهم الكبير على قدر جيد من الاهتمام والمسؤولية، ليتجمعوا ويتنظموا بكثرة في لوبيات مؤثرة أو في تظاهرات ووقفات احتجاجية. يمكننا ملاحظة تداول قليل وصفي أو نقدي للمصطلح والمفهوم (كنا عايشين) الذي يستبطنه على فترات متباعدة بعد إطلاقه أول مرة من طريق أنواع مختلفة من المحتوى المرئي والمكتوب من قبل ناشطين أو منصات إعلامية حتى هذا اليوم.
إذاً بعد كل هذه السنوات ما يزال التهكم والتندر خبزة السوري أينما ذهب، بل كأس خمرته، أكان تهكماً على قيادات وأجسام المعارضة أو على النظام وجمهوره المؤيد على مختلف درجاته وتوصيفاته، تحت عنوان هذا الهاشتاغ المكثف بحمولة عالية من القهر والذكريات وأيضا يختزن إشكالية مبدأيّةً وأخلاقية تحتمل جدلاً كبيراً سيفرز بين مع وضد، لكن ما حصل قد حصل وانتهى الأمر.
أما التندر والتهكم تحت عنوان هذا الهاشتاغ في عام 2022 وقبل أيام من انطلاق الحملة يحمل جرعة عالية من الكوميديا والتوظيف البصري الساخر تلاحظة بجولة سريعة بعد كتابة الهاشتاغ في خانة البحث في منصة فيسبوك، إلى مقاربات أو مفاضلات ملتقطة بعناية. في السنوات الأربعة الأخيرة انتشر المميز في العالم العربي بكثرة، فزاد من حس الدعابة أكثر وتكثيف الرسالة النصية (الخطاب) في المحتوى المصور الثابت أو المتحرك القصير بما تتيحه منصات التواصل في يومياتها.
اقرأ المزيد: بتهجيرهم واقتلاعهم.. عفرينيون يؤكدون تحقيق تركيا هدفها من غزو أرضهم
على وقع الحدث الأوكراني وما يحمله من مقاربات ومفاضلات حاضرة في ذهن السوري بوجود الطرف الروسي وما اقترفه في سوريا كغازٍ لأوكرانيا بلد ذي سيادة وجار للاتحاد الروسي، ينشر الآن السوريون مجدداً تحت هذا العنوان. وأنشأ بعضهم صفحة متخصصة في هذا المجال وبنفس العنوان تستحضر كل المحتوى ذات الصلة منذ أن ولد الهاشتاغ عام 2015.
لقد كثرت الكتابات التي شبّهت ما يحدث في أوكرانيا بسوريا، ماريوبول بحلب، الأسلحة المحرمة دوليا فوق خاركيف، أي أثر لهذه الحرب على سوريا، نحاول باستماتة استحضار الحدث الأوكراني في المأساة السورية، فأوكرانيا تتدمر بينما الغرب يدعمها بالسلاح الخفيف كما يحصل في سوريا، بينما يبدو صوت العقل أن ترى القيادة الأوكرانية بعيون أكثر اتساعاً ولا تكون ضحية مزدوجة للغرب وروسيا.
أينما وليت عينيك في فضاءات المحتوى الإخباري فسيغلب الحدث الأوكراني عليه والمحتوى التعليقي والمطول منه وعلاقته بدولة كاتب المحتوى بشكل واضح حول العالم. ليس السوريون استثناءاً وهم الأحوج بعد برود على الصعيد السياسي وسكة الحل السورية، لإعادة إنتاج محتوى جديد مثير ومرتبط بسوريا التي تمور بالجوع والحرمان. أيضا، بدأ السوريون يعيدون قراءة ونقد البوصلة الثورية الأخلاقية والسياسية لبعضهم، من خلال الموقف من الحدث الأوكراني بطريقة اختزالية قطعية في ثنائية مع وضد، وليست ظاهرة سورية بل أصبحت ظاهرة عالمية يسهل ملاحظتها على وسائل التواصل الاجتماعي الأجنبية أيضا. لكننا نقع في الحفرة مرة أخرى مع كل حدث محلي أو إقليمي أو دولي قادر أن يحمل/ يُظهر ثنائية صراع خير وشر لنبقى في مناخ من التخوين والتكفير دائما.
تلك كانت بضعة عينات عن التفاعل الحاصل الآن والمنتشر بكثرة بين السوريين خارج سوريا بالدرجة الأولى، ولا يعدو الأمر إلا تعبيرات فردية في نهاية المطاف كما كل حملة سابقة إي بلا مردود. هو تذكير بالموقف واستسهال وكسل ساعدت عليه طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيراتها السلبية في تشتيت الانتباه والعدول عن النشاط الفاعل على أرض الواقع ضمن الجغرافيا الضيقة المتاحة لكل فرد يحيط به بضعة سوريين يتشاركون الاهتمام بالكتابة والنشر والتفاعل على منصات التواصل، قد يكونوا أصدقاء في الواقع الافتراضي يتابعون بعضهم، لكن لا أحد منهم التقى الآخر شخصيا.
سينتقد كثر هذه الموجات النقدية الساخرة لعدم جدواها واستثمارها من قبل البعض في سياق استنهاض خطاب ثنائية طائفية استقطابية؛ ولأنها تشير لعجزنا أيضا عن الفعالية..، كما سيؤيدها آخرون فهي تساعد الفرد السوري ليضبط عاطفته وغضبه ويتلقى مكافأته من تفاعل أصدقاءه على الميميز الناقد خاصته أو حكايته المحزنة.
واقع الأمر أننا لسنا مؤثرين كسوريين في مستقبل البلد ولا حاضره بشكل مباشر في القرار، إننا نمارس فقط الفعل التواصلي مع محيطنا الاجتماعي وليس بالقرار الواعي بقدر ما هو اعتياد أو إجبار، مع مجموعاتنا الضيقة من أصدقاءنا على المنصات لنبقى أصحاء نفسياً قدر الإمكان ومتصالحين مع أنفسنا قدر الإمكان ما صدّقنا أننا نفعل شيئاً لخدمة المجتمع والوطن، من خلال المشاركة في كتابة بوست منفرد أو في سياق حملة وتفجير غضبنا على الظلم والدكتاتورية الأسدية والعالم الذي خذلنا بعد أن خذلنا أنفسنا.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!