الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
من طور المجرم المنتصر إلى طور محاسبة الفاعل
مها حسن

قطعت علاقتي بصديق محامي، حين جاء إلى مكتبي يزف لي نبأ نجاحه في أول دعوة يترافع فيها، حيث تمكن من تبرئة موّكله من جريمة قتل ابنته.


كانت زوجة موّكله، قد دبّرت لقتل الفتاة، متكئة على ذريعة الشرف، بقصد حرمانها من الميراث الذي ستحصل عليه .. وكان المحامي يعرف تلك الحيثيات، وهو الذي روى لي الحكاية، لكن سعادته بانتصاره المهني، عبر براءة موّكله، كانت أهم من فشله الأخلاقي، وهو يُبرّئ قاتلاً من دم ابنته..


قبل سنوات طويلة، روت لي سيدة في حلب، كيف دخلت إلى مقهى يرتاده الرجال، ويتواجد فيه عادة مثقفوا المدينة، وتوجهت السيدة صوب أحد المشاهير الذي كان يجلس محاطاً بمجموعة أصدقاء، اقتربت السيدة من طاولة الرجل، ألقت عليه السلام بأدب، وقدمت نفسها : أنا فلانة، هل تعرفني يا أستاذ فلان؟ هزّ الرجل رأسه نافياً، وقال : أبداً، هذه أول مرة أراك فيها. أضافت المراة: لكنك قلت لفلان الفلاني أنك أمضيت معي ليلة ساخنة!


شرحت لي كيف اكفهّر وجه الرجل وارتبك، بينما لقّنته السيدة درساً مهماً أمام شهود كثر...


اعتاد الرجال، عبر أمثلة لا نهاية لها من حكايات مماثلة، على التباهي بالتحرش بالنساء وإقامة علاقة معهن، حتى أن الكثيرين منهم لا يجد غضاضة في إظهار فحولته عبر التحرش بالنساء و"كسره" لهن، أمام نساء عائلته : أمه، أخواته، بل زوجته وبناته.. اللواتي اعتدن غالباً على النظر بإعجاب إلى صورة هذا الرجل القوي، المنتصر، الذي أذل إحداهن..


لهذا، فإن ثمة تواطؤ جمعي في المجتمع الشرقي، اُتفق فيه على نصرة الرجل ضد المرأة، دون مناقشة حقّ المرأة أو محاولة الوقوف إلى جانبها، حيث اعتادت الثقافة الذكورية التي مارسها الرجال والنساء على النساء، أن تُخرس النساء المتعرضات للأذى، حتى لا يفضحن أنفسهن وبالتالي يفضحن عائلاتهن ويجلبن لهن العار..


لطالما دفعت نساء بريئات حياتهن، وكرامتهن، وحريتهن، من أجل لحظة انتصار وتباهٍ تُرضي نرجسية الرجل، وتكون المرأة هي الطرف الذي يجب أن يسكت خشية الفضيحة..


لكن ما يحصل اليوم، بفضل مواقع التواصل، يُعد ثورة فكرية واجتماعية، تعيد للنساء مكانتهن، وتؤثّم الرجل المعتدي وتفضحه، والرجل هو هنا المفضوح وليست المرأة. أي أننا أمام نقلة نوعية لتعريف الفضيحة، وبالتالي لتحديد المجرم، وتحقيق العدالة..


الرجل الذي كان بالأمس، يُجاهر بأفعاله ضد النساء، دون أي عقاب، صار اليوم يخشى من أن تظهر إحدى ضحاياه السابقات، أو أي شاهد على أفعاله، لإعادة تقييم ما حصل، ووضعه في سياقه الأخلاقي والقانوني العادل، وهذا ما يشجع اليوم أكثر، النساء اللواتي صمتن على اضطهادهن وابتزازهن من قبل الرجال، ومن قبل المجتمع الذكوري المتواطئ مع هؤلاء الرجال، على استعادة حقوقهن، ووضع المسألة في سياقها العادل : المرأة هي الضحية التي تستحق الدعم والمساندة، والرجل هو المعتدي الذي يستحق المحاسبة والعقاب.


هذه النظرة الجديدة، في نقل الرجل المُعتدي ، من طور القاتل المُنتصر إلى دور القاتل المُحاسب، تحتاج دعماً جمعياً، حتى لا تكون مجرد حالات فردية، تنتصر فيها بعض النساء اللواتي تجرأن على فضح الأطراف التي قامت بانتهاك حقوقهن، بل لنقل القضية إلى دائرة الحق الجمعي والمحاكمة المتسعة، التي تعيد للمجتمع قيمته الإنسانية، وموقفه الطبيعي في دعم الضحية، لا الاتفاق على قمعها وقتلها..


هل يمكن أن نحلم إذن، بانتقال المجتمع من طور المُتفق، المتواطئ، المُساند، المنبهر، المشجع... للرجل المتحرش أو المعنف أو المغتصب، إلى طور المجتمع الناضج والأخلاقي الذي يقف كصفّ جديد وحديث ضد الاعتداءات على النساء، مهما كانت درجاتها، ليقلب تفسير الفضيحة وتحديد حاملها، من المرأة التي تعرضت للإيذاء، إلى الرجل الذي قام بالفعل الفاضح؟


لا شك أن الطريق طويل، باعتبارنا نعيش في مجتمعات متماسكة في تبرير العنف ضد الضعفاء، والمساهمة به، والترويج له.. وحيث تنقصنا الكثير من قيم العدالة والمحاسبة الديمقراطية والأخلاقية، التي حتى قوانيننا المعمول به في المحاكم، لا تزال تميل إلى الرجال، وتطبطب على انتهاكاتهم ضد النساء.


مها حسن


 


 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!