الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
من أنقرة إلى الحسكة: الحياة ممنوعة.. موتوا عطشاً
الحسكة



مُعادلة بسيطة قد لا يرغب البعض في الإقرار بها، تقول إن أنقرة (التي تدرك بأن لا حق لها في التدخل بحياة السوريين وطريقة إدارتهم لبلادهم وبلداتهم ومدنهم)، ستعمل ليل نهار لإنهاء تجربة جزء من السوريين في إدارة أنفسهم بأنفسهم، وذلك رغم ما تدعيه من دعم المعارضة السورية، خاصةً عقب أن انتقلت السياسة التركية من مساعي القضاء على النظام السوري، سعياً لوصول أدواتها في تنظيم “الإخوان المسلمين” إلى سدة الحكم، إلى سياسة الخروج بأقل الخسائر.






تلك السياسة التي جاءت عقب التدخل الروسي في سوريا العام 2015، والانقلاب في تركيا العام 2016، لتتحول معها الاستراتيجية التركية نحو العمل الدؤوب دون كلل أو ملل لاستغلال كل تراجع دولي، أو ضوء برتقالي، بغية مُهاجمة المناطق السورية الشمالية، والاستيلاء عليها بذريعة مُحاربة “الانفصاليين”، في إشارة إلى “قوات سوريا الديمقراطية”، رغم أنه لم يعد نافعاً مُناقشة تلك الفرضية حولهم، فهم على الأقل لا يضعون العلم الأمريكي فوق مقراتهم، ولا العلم الروسي على أذرعهم، ولا يتفاخرون بالعلم الفرنسي على صدورهم، كما تفعل مليشيات “الجيش الوطني السوري” مع العلم التركي وصور أردوغان.


 


ولأن السياسة التركية أضحت معروفة للجميع، ولم يعد هناك من داع لنقاشها، أو بحث مخططاتها وأطماعها، فيما تعتبره حقها بالعودة إلى المناطق التي كانت تحكمها ما تسمى بـ “السلطانة العثمانية”، فإن تركيا أردوغان لم ولا ولن توفر جهداً في سبيل إنهاء تجربة “الإدارة الذاتية” التي تحكم شمال سوريا، وإن لم تتمكن من فعل ذلك عسكرياً، فلن تتوانى عن فعله سياسياً وإعلامياً، ولا حتى باستغلال عوامل الطبيعة، كالمياه، التي أصبحت ضمن الأسلحة التركية ضد الكُرد السوريين، وشركائهم في مناطق شمال البلاد.


ثُبات المجتمع الدولي


ورغم أنها باتت حديث الساعة نظراً لتفاقمها خلال الأسبوع الماضي، بيد أن دعوات “الإدارة الذاتية” (التي لم تتوقف منذ شهور في سبيل إيقاظ المجتمع الدولي، ودفعه للقيام بمهامه تجاه أنقرة المُتعاملة مع كامل الإقليم على أساس أنها حظيرتها التي تفعل فيها ما يحلو لها، دون رادع قانوني أو إنساني)، لم تجد آذاناً صاغية.


حيث كانت قد حذرت “الإدارة الذاتية” في الثلاثين من يونيو الماضي، من كارثة بسبب انخفاض منسوب المياه في نهر الفرات، محملة تركيا مسؤولية قطع المياه عن المنطقة، وقالت إنها ستضطر لخفض ساعات التغذية الكهربائية، بسبب الانخفاض الكبير في منسوب مياه السدود، منبهةً من انخفاض كميات المياه ستنعكس سلباً على اقتصاد المنطقة والأمن الغذائي وشح مياه الشرب وتضرر المحاصيل الزراعية.


وقالت الإدارة في بيان، أن “الوارد المائي لنهر الفرات من طرف الدولة التركية بلغ أقل من ربع الكمية المتفق عليها دولياً”، فيما أوضح المهندس جهاد بيرم رئيس غرفة العمليات في سد تشرين، لوسائل إعلام محلية إنه وحسب الاتفاقيات الدولية، يتوجب “أن يكون الوارد المائي 500 متر مكعب بالثانية، أما الموجود الآن في سدود المنطقة هو 200 متر مكعب بالثانية”، مشيراً أن تركيا تتحكم بمنسوب وارد المياه وتحاصر مناطق شمال شرقي سوريا مائياً.


الفرات بالكاد يروي مجراه


وفي بداية يوليو الماضي، تناقلت وسائل إعلام محلية ورواد وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد وصفت بالـ”مفزعة”، أظهرت انخفاضاً قياسياً في منسوب نهر الفرات وصل إلى حد الجفاف، كما نشرت وكالة “هاوار” صوراً وفيديوهات ملتقطة على ضفاف النهر، بيّنت تقلص عرض مجرى النهر مئات الأمتار بالقرب من مدينة جرابلس وصولاً إلى سد تشرين، لمجرى أكبر نهر في البلاد، وذلك بعد مضي شهرين على خفض تركيا لمعدل المياه المتدفقة إلى الجانب السوري.


وكانت دمشق وأنقرة وقعتا في العام 1987 اتفاقاً مؤقتاً، لتقاسم مياه الفرات، قضى بأن تمرر تركيا ما لا يقل عن 500 متر مكعب في الثانية، على أن تقوم سوريا بتمرير ما لا يقل عن 58 في المائة منها إلى العراق بموجب اتفاق آخر بين أنقرة وبغداد بداية التسعينات.


 


وخلال عقود، كان ملف المياه في نهري الفرات ودجلة الدوليين، أحد القضايا العالقة ثنائياً أو ثلاثياً بين سوريا والعراق وتركيا، لكن حجم التدفق والتزام الاتفاقين، أصبحا خاضعين لمقايضات وصراعات واللحظات السياسية بين الأطراف الثلاثة، وجرت العادة أن تبلغ أنقرة، دمشق، بالطرق الدبلوماسية بخططها إزاء ملء سدودها، أو إصلاحها، في جنوب شرقي تركيا، كي تُتخذ إجراءات من النظام السوري اليي قام بدوره بإنشاء ثلاثة سدود ضخمة على الفرات لتخزين المياه وتوليد الكهرباء، هي: سد تشرين، سد الطبقة، سد البعث.


عمليات إيقاف متكررة


وتوّقف القوات التركية بشكل مستمر عمل محطة علوك للمياه، التي تغذي مدينة الحسكة ومناطق بمحيطها وريفها، في إطار ما يمكن اعتباره بالابتزاز المائي، ففي الخامس من يوليو الماضي، تم إيقاف المياه للمرة السابعة منذ سيطرتها على المحطة الواقعة بريف الحسكة الشمالي، وهو ابتزاز كان قد دفع بمنظمة (هيومن رايتس ووتش) في الأول من أبريل الماضي، إلى اتهام تركيا بالإضرار المتعمد بالسكان المدنيين في شرق الفرات، وقطع مياه الشرب عنهم، ما يهدد بتفشي وباء فيروس كورونا (كوفيد- 19).


وأوضحت المنظمة في تقريرها أن تركيا قطعت عدة مرات الخط الذي يقوم بنقل المياه إلى المدن الواقعة في شمال شرق سوريا، مشيرةً إلى أنها بذلك تعرض جهود مكافحة المقيمين في تلك المناطق لفيروس كورونا للخطر، وأشارت المنظمة إلى أن محطة مياه “علوك” الواقعة في مدينة رأس العين أصبحت تحت سيطرة العناصر المسلحة المدعومة من تركيا، منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لافتةً إلى أن المياه قطعت أكثر من مرة.


وبحسب خبراء، فإن سد الفرات وحده كان ينتج ما يقرب من 800 ميغاواط من الطاقة الكهربائية في الساعة، إلا أن معدل إنتاجه انخفض نهاية يوليو الماضي، إلى أقل من الربع، بسبب انخفاض مستوى المياه فيه، وقال وائل الراوي في تصريحات صحفية، وهو مهندس مشرف على السد، إن انخفاض منسوب مياه الفرات “لم يوثر على إنتاج الكهرباء فحسب، بل شكل أيضاً تهديداً لمياه الشرب”.


وأضاف: “بدأت المدن الكبرى الواقعة على ضفاف النهر تعاني انقطاعاً وشحاً في مياه الشرب لأيام، بسبب خفض تركيا كمية المياه الواجب دخولها إلى سوريا”، ووفق الخبراء، إن واصلت أنقرة خرق الاتفاق، فإن مدناً سورية مثل حلب والرقة ودير الزور والبوكمال، وصولاً إلى العراق، ستواجه لا محالة كارثة إنسانية.


سياسة تركية ممنهجة


لكن لا يبدو أن الممارسات التركية محصورة في موقع جغرافي محدد، بل هي وفقاً للصحفي الكردي السوري “همبرفان كوسا”، “حرب تهدف إلى تعطيش السكان وإخضاعهم للاستعمار”، متابعاً في منشور على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي” الفيسبوك: “حينما أعلنت الحكومة التركيّة عن بدء معركة غصن الزيتون لاحتلال مدينة عفرين، قصفت الطائرات التُركيّة محطة تصفية مياه الشُرب في محيط بلدة شران شمال شرقي مركز مدينة عفرين المحتلة، بقذائف صاروخيّة عدة. وقصفت بالطائرات سد “ميدانكي” ثلاث مرات متتاليّة، ومن ثمّ حوّل الجيش التركي مجرى مياه الشرب من مدينة عفرين إلى مناطق مدينة إعزاز”.


متابعاً: “قبل ذلك بعامين، حوّلت تركيا المجرى الطبيعيّ لنهر دجلة، إلى داخل الأراضي الزراعيّة لقرية عين ديوار في مدينة ديريك لتضمّ أكثر من ألف هكتار من الأراضي السوريّة إلى تركيا، خلال عام 2016”.


 


وأردف: “وقبلها، كانت تركيا تقوم بتنفيذ مشروع سد أليسو، الذي أغرق مدينة حسكيف الكردية الأثرية، ومنحت الفرصة لتركيا أكثر لتتحكم بمياه نهري دجلة والفُرات”، متابعاً: “كان واضحاً أنّ تركيا تعمل على المقايضة، وتحارب الكًرد بالمياه هذه المرّة، وتنفّذ عملية تغيير ديموغرافي بأدوات صناعيّة أيضاً، وتُحاول إخماد الثورات الكرديّة وطمس القضية الكرديّة من خلال المياه، في عفرين وقامشلو وديريك وسري كانييه وحسكيف وفي تعطيش إقليم كردستان- العراق”.


وعليه، ليست حرب المياه التي تخوضها أنقرة في الحسكة ومناطق الشمال السوري، إلا استكمالاً لذلك الجهد، الذي لن يدّخر سواء أكان مشروعاً أو غير مشروع، في سبيل تحقيق هدف أنقرة بالقضاء على الوجود الكُردي ككتلة مُتّحدة ذات جغرافية مُحددة، ونظام سياسي وإداري، ومحمية من قبل مقاتلين من أبناء المنطقة.


وكما يبدو، ليس لتركيا هدف في شمال سوريا، سوى تكرار “سيناريو عفرين” الذي يعتبر أفضل تصور لسوريا المستقبل لديها، عبر شرذمة الكُرد وتشتيت شملهم، وتطبيق التغيير الديموغرافي في مناطقهم، وهو مشروع لن يكون سوى على حساب السوريين، سواء أكانوا المستهدفين بالتهجير من الكُرد، أو المستهدفين بالتوطين من جديد من باقي المكونات، لتتم معها تصفية السوريين على أيدي سوريين آخرين، دون أن يدرك الجانبان، أن تصفية أحدهما هي تصفية للآخر، وهي تصفية لن يستفيد منها أحد سوى أنقرة، الساعية للتوّسع عبر أدوات يمكن بيعها وشرائها في أي وقت، وبأبخس الأثمان.


ليفانت-خاص


إعداد وتحرير: أحمد قطمة 



النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!