-
مملكة الفساد الأخلاقي والفكري
لم أكف عن التفكير لساعات مطولة بعد أن اطّلعت على ما كتبه رامي مخلوف على صفحته من كلام غير مترابط ولا يحمل أي مضمون مفهوم أو متوازن، بل هو نصّ رصف " طلاسم" تجمع أدعية دينية، كتلك التي كان يدوّنها المشايخ في قصاصات صغيرة، ثم يلفونها بقطعة قماش، ويأخذون مقابلها اثماناً باهظة، من نساء مقهورات، لا يجدن وسيلة لحل مشاكلهن، إلا عبر طرق أبواب الخرافات والمشعوذين..
الفكرة الملحّة التي لم تفارقني: لماذا يلجأ شخص ذو نفوذ مالي واجتماعي، إلى هذه العبارات السطحية، التي أيضا استخدم مثيلاتها في خطاباته المسجلة في فيديوهات بثّها عبر الفيسبوك؟ لماذا يلجأ "حوت مالي" إلى الاستعانة بنصوص قديمة؟هل ليؤثر عاطفياً على الجمهور الذي يُؤخذ بالأدعية والكلام الموزون إيقاعياً، دون مضمون فكري واضح؟
في كلتا الحالتين، سواء أكان مخلوف مدركاً لأثر الكلام المرمي دون معنى، أو لجهل منه، ينبغي التوقف أمام المفاهيم الأخلاقية، التي أسستها مدرسة الأسد في الحالة الأولى، والمفاهيم الفكرية والثقافية، التي جرّدت مملكة الأسد مواطنيها منها، في الحالة الثانية.
ففي حال استعمل رامي هذا الخطاب العاطفي الخالي من العمق والوضوح، مستنداً أيضاً على فكرة "الباطنية"، فهو بذلك، يبرر براغماتيته ولا أخلاقيته، ليس فقط في فساده المالي، وطريقة تأسيسه لمملكة من المليارات، التي ينطق بأرقامها، كأنه يتحدث عن حفنة من الليرات. أما لو كان جاهلاً فعلاً، وليست لديه لغته التي يستعملها، أي عباراته الواضحة، التي تنمّ عن تفكير متماسك، يفهم منه المتلقّي ماذا يريد أن يقول، فإن هذا يدعو أحدنا للتفكير، في أية مدارس تعلّم هذا الرجل؟ وأية مواد درسها، ليخرج بخطاب لا يستند إليه، سوى الأميين ورجال الدين السطحيين.. هذا لا يعني، أنه من المتوقع، أن يكون نموذج كمخلوف، همّه ينحصر في الإثراء وجمع المال، في مستوى فكري أعلى، لكن، وبقليل من التأمل، يحق لنا طرح هذه التساؤلات: لماذا لا تزال عقلية أغلب المتواجدين في مراكز القرار، متخلفة ورجعية وقروسطية، بالمعنى اللغوي، والفكري، والحضاري...
يتعامل رامي مخلوف دون شك مع نظام معلوماتي معقّد وشائك، من خلال تعاملاته المصرفية، هذه اللغة، لغة رأس المال، تفرض غالباً، بعض البداهة في استخدام عبارات معاصرة.. لماذا يلجأ مخلوف إلى خطاب الدروشة وادّعاء التُقية، والتقرّب من الله، ليظهر كأنه حلّ عليه نور الإيمان وأمارات العبادة، ليجيّر أرباحه، واستثماراته، إلى خطاب ديني، موجّه بشدة، صوب الشق الطائفي، متكئاً على البلاغة اللغوية، التي تحتمل دلالات واسعة، الأمر الذي يجعل كل شخص، من متلقّي الرسالة، يفسّر العبارات وفق فهمه الشخصي.
الغموض إذن، السطحية، التلعثم، الأخطاء في الكتابة، أمور لاحظها أغلب الذين أخذوا كلامه على سبيل التهكّم.. لماذا لا يلجأ مخلوف، لكلام واضح ومتماسك، قائم على الوعي والنضج في التعامل مع اللغة، ومع الآخرين؟ ألهذه الدرجة، ينظر إلى الآخرين، على أنهم قطيع عاطفي، سيقف إلى جواره ويسنده، بمجرد أن استعمل نصّاً بليغاً يستند إلى لغة الأقدمين؟
هذه اللغة، الخالية من المعنى، الرصف اللغوي، الذي عفت عليه الحداثة، والعالم الرقمي الذي ينتمي إليه مخلوف ورجال المال في تعاملاتهم اليومية، تؤكد أننا كسوريين أولاً، ثم يمكن تعميم هذا النموذج على مستويات أوسع، لا نزال نعاني من خلل فكري، بين ما نحياه من شكل معاصر للحياة، وبين اللغة التي نستعملها..
هذا الكلام، يمكنه أخذنا، إلى أماكن أوسع، للتنقيب في الفساد الثقافي والفكري، الذي أسسه رجال المال، بالتعاون مع النظام السياسي الذي لا يهمه وعي الناس، بل يسعى إلى استلاب هذا الوعي، عبر دراما رمضان مثلا، وسينما، وآدب، ومسرح.. تسعى جميعها، للابتعاد عن التفكير والنقد ومواجهة الحقيقة..
مها حسن
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!