الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
ليلى وحقوق الإنسان
جمال الشوفي

هل يمكن لـ"ليلى محمد" العجوز السبعينية أن تسامحنا؟ أن تسامح من اعتدى عليها بطريقة وحشية تخلو من أبسط أشكال القيم والأعراف المجتمعية، حين ركلها بقدمه على وجهها، لتخفي وجهها حياءً وألماً.

قضية ليلى تتجاوز حدود التصرف الفردي، إلى موضوعات سياسية وحقوقية وإنسانية. السياسية منها تطال بالجذر مسألة السوريين في كل دول اللجوء، لماذا هجروا؟ وما السبيل لإنصاف قضيتهم؟ وماذا عن دور دول الجوار، كتركيا، التي وإن كانت تحمي لليوم ملايين السوريين، إلا أنها تعبث بمصيرهم ومصير الكورد السوريين أيضاً. والمفارقة أن المنطقة الآمنة التي تزعم على إنشائها هي للسوريين المهجرين من الداخل السوري، فيما تسعى لتغيير بنية الجغرافيا السكانية للشمال السوري عبر تسكينهم على طول الشريط الحدودي بعمق 30 كم كجدار فاصل بينها وبين أخوتهم الكورد.

أحاديث السياسة اليوم باتت مقززة، حيث لا مؤشرات فيها سوى للمصالح الفجة، والتلاعب بالألفاظ على حساب المشاعر والوجدان والقيم، لكن لقصة ليلى وملايين السوريين في الداخل والخارج قصة تتجاوز عتمة السياسة لموضوع الحقوق والقانون فأين نحن منها؟

تبنّى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ترسيخ مفهوم الحقوق المتساوية أفقياً لجميع أفراد الأسرة البشرية، واليوم بات ضرورة أكبر من أي وقت مضى، فالسلم العالمي، بما فيه الحقوق، تهدّده آلات الحرب وسلطات الهيمنة والاستبداد، وتزايد نزعات التشدد والتعصب الأعمى القومي والديني والسياسي.. وهنا تبدأ قصة السوريين مراراً وتكراراً.

حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الأولى: "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق". هذه الحقوق تشمل كافة جوانب الحياة، المادية والفكرية والثقافية والحياتية. والمادية منها تشمل حق العيش الكريم وتأمين العمل وفرصه المتساوية والمتكافئة، حق التعليم والصحة، حق الامتلاك والبيع والشراء والمنافسة الاقتصادية، حق الزواج وإنجاب الأطفال.. هذه الحقوق هي حقوق طبيعية تمثل قاعدة هرم ماسلو في الاحتياجات. فيما تأتي الحقوق الفكرية والثقافية موزعة على درجات سلم هرم ماسلو، بدءاً من حق الاجتماع وصولاً لتقدير الذات وتحقيقها.

هذه الحقوق هي عقد اجتماعي محلي، ويجب أن تكون حقاً عالمياً بين الدول، على المساواة العامة فيها لما لها من قدرة على احترام الإنسان وقدرته المتميزة في الوجود. ولا يجوز لأي سلطة أو قوة، أياً كان نوعها، سلب أي حق من هذه الحقوق. فلكلِّ إنسان، حسب المادة الثانية من الإعلان "حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي، السياسي وغير السياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاً أم موضوعاً تحت الوصاية أم غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعاً لأيِّ قيد آخر على سيادته". ويحق له البحث عن الأمان حين لا يجده في موطنه.

عالم الشرق الزاخر بالتنوع الثقافي والديني والاجتماعي يعاني من خلل في كافة أنواع هذه الحقوق، وحتى يتسنى لنا الوقوف على ناصية الحق الإنساني، فإن التزام الاعتراف بحق الرأي والفكر والإيمان والدين والثقافة والكتابة والعمل، حقوق تتطلب الحرص والمسؤولية عن سلامة الأوطان. فأي تنازع في هذه الحقوق سيكون مولداً لشرارات وحرائق وحروب يصعب إطفاؤها، "فمعظم النار من مستصغر الشرر"، كما عبر عنها الكواكبي. تلك التي وضعها الإعلان العالمي لحقوق الانسان أساساً في مقدمته كديباجة أولى: "ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة. ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم." فالإعلان هنا أجاز حق رد الظلم والتمرد عليه، كنتيجة طبيعية لمولدات أسبابها.

مر على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 74 عاماً، والمدوّن منذ 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948، في باريس، وترجمت تلك الحقوق إلى 500 لغة من لغات العالم. ولم تتعظ بعد سلطات الاستبداد والهيمنة والقوة والإكراه من العمل على نفي مولدات الحروب والعنف. وليس صعباً أبداً عليها أن تعترف بهذه الحقوق الفردية الشخصية والعامة للدول، إلا إذا كانت تضع نفسها مقابلها. أي إن تحقق هذه الحقوق سيزيل هذه السلطات، ولكن ما لم تعه أو تدركه أنها ما لم تعترف بهذه الحقوق فستذرها رياح التاريخ، وقد تهدم أوطانها وتهدد السلم العالمي وتاريخ البشرية برمته، والتجربة النازية مثال واضح، إذ تسببت بكوارث محلية وعالمية.

وها هم السوريون اليوم يعانون ويلات ذات نماذج سلطات الهدر والعقوق، وها هي ليلى محمد تعاني القهر مرتين: مرة من سلطات بلادها في تهجيرها، ومرة من شاب متعصب كاره وحاقد، بات يمثل تياراً لا استثناء، في تركيا وقبلها في لبنان، ومثلها بعض سياسيي الغرب العنصرين، فكيف هي البوتينية والشوفينية العنصرية في الإصرار على إذكاء نيران الحرب وهدم الميراث الإنساني العصري؟

لقد أتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وربما بات من الواجب تحديثه مع بوادر حرب عالمية ثالثة، وذلك لدرء حدوثها. إذ ما زالت مبادئ الإعلان غير ملزمة لأعضاء الدول في الأمم المتحدة، ولا توجد ضمانات بعدم تجاوز انتهاكاتها لليوم، ما يتطلب من المنظمات الحقوقية الإنسانية والمدنية العالمية والمحلية في كل دول العالم، العمل معاً، وتفعيل طرق ضغطها لوقف الحروب، وازداء الأديان وثقافات الشعوب المختلفة، كتلك التي تجري في أوكرانيا ودول الشرق الأوسط كسوريا، وإلا ستجد البشرية نفسها أمام ما لا تحسد عقباه.

فتاريخ الشعوب وربما البشرية عرضة للخطر أكثر من وقت سابق فيه، وأعداد الذين قد أخفوا وجوههم ألماً وحياءً في سوريا فاقت القدرة على عدهم، وقد نشهد مظاهر أن يخفي الكثيرون وجوههم في تزايد ما لم تتمكن المنظمات الأممية ولجان حقوقها بتفعيل دورها القانوني والدولي في التأثير في السياسات الدولية، وتعديل كفة ميزانها ضد الحرب والتمييز العنصري وامتهان كرامة الانسان، ما يطرح سؤال الأمم المتحدة وهيئاتها الدولية: ماذا بعد التوثيق؟ وهل يكفي السوريون أن يزور والي غازي عنتاب السيدة ليلى ويعتذر منها ويعاقب الفاعل وحسب؟

ربما قانونياً هو فعل إيجابي فردي، لكن وفق صيغة العموم السوري فهو لا يفي بأبسط أشكال حقوقهم المستباحة منذ عشرة أعوام لليوم دون حل يذكر، سوى التنديد والاستنكار والتوثيق، بينما إهانة الكرامة وهدر الحقوق عنوان فاضح على قارعة الأمم المتحدة ومرأى من عينها.

 

ليفانت - جمال الشوفي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!