-
لماذا نجح الربيع الأمريكي وفشل الربيع العربي؟
ما زال الحراك الشعبي الذي نتج عن حادثة مقتل المواطن الأمريكي الأسود "جورج فلويد" على يد ضابط شرطة، في مدينة "منيابوليس" في الأسبوع الأخير من شهر مايو، مستمراً في كسب مؤيدين وإحداث موجات متوسطة الشدة من التغيير السياسي، ليس فقط في داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن أيضاً امتد أثره إلى بريطانيا وبعض الدول الأوروبية، في مشهد غيّب كثيراً أخبار انتشار فيروس كورونا وأثاره المدمرة على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في حياة الأمم والأفراد. ولا يبدو أن هذا الحراك سيتوقف عن قريب.
تحمل الحركة الشعبية التي تقود الحراك السياسي في الشارع الأمريكي هذه الأيام شعار "أرواح السود مهمة"، وهي تسعى إلى تحقيق العدالة للمواطنين أصحاب البشرة السمراء، والذين يتعرضون لتمييز عنصري يهدد أرواحهم ويؤثر على جودة الفرص المقدمة لهم بشكل مستمر، لا سيما في دول ذات تاريخ عنصري ضد السود، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
وقد نجحت الحركة بالفعل في التأثير على صناع القرار في تغيير العديد من القوانين التي تسمح لقوات الشرطة باستخدام العنف الجسدي في ملاحقة المشتبه بهم أو في أثناء القبض عليهم، بل وامتد تأثير الحركة إلى سحب أفلام كلاسيكية من مكتبات الأفلام الأمريكية، مثل فيلم "ذهب مع الريح" الشهير، نظراً لما يحتويه من بعض المشاهد التي يتجلى فيها التمييز العنصري ضد السود، والذي كان أمراً مقبولاً داخل المجتمع الأمريكي في حقبة إنتاج الفيلم.
أما في الدول العربية، فقد كان موقف المتابعين للحراك السياسي الأخير في الشارع الأمريكي يتميز في أغلبه بحالة من الشماتة التي نبغضها ونرفضها، وإن كانت دوافعها مفهومة. فهناك كثيرون في العالم العربي يعتقدون تمام الاعتقاد أن الولايات المتحدة هي من صنعت سلسلة الثورات المعروفة باسم "الربيع العربي" والتي أعقبتها سلاسل لا نهائية من أحداث الخراب والدمار، التي لم تترك بلداً واحداً في منطقة الشرق الأوسط على حاله، وأوقعت الإقليم في ويلات حروب أهلية وانتشار التنظيمات الإرهابية في ربوعه.
وقد جعل التطابق الشديد في المشاهد التي انتقلت إلينا من الشارع الأمريكي، مؤخراً، مع أحداث ومشاهد ثورات الربيع العربي، التي حدثت قبل تسع سنوات، حالة من الـ "ديجافو" لدى المتابع العربي، خصوصاً مشاهد الاحتجاجات أمام البيت الأبيض، ومشاهد المصلّين المسلمين وهم يقيمون الصلاة في شوارع نيويورك وغير المسلمين يحيطون بهم في صمت، ثم نزول قوات الحرس الوطني للسيطرة على أعمال العنف والتخريب في الأيام الأولى للمظاهرات. حتى أن البعض قد وصف الحراك السياسي في أمريكا اليوم بأنه "الربيع الأمريكي" على غرار مصطلحات "الربيع العربي" و"الربيع الأوروبي"، وبالغ البعض بتخيل أن ثمة ثورة شعبية سوف تسقط إدارة ترامب.
إلا أنه ومع مرور الأيام، استطاع الحراك الشعبي المطالب بإنهاء التمييز العنصري ضد المواطنين السود وتحقيق العدالة وإصلاح قوانين الشرطة، أن يتماسك وينجح ويستمر، متجاوزاً كل المشكلات التي سبق ووقعت فيها ثورات الربيع العربي.
فقد حاول الديمقراطيون ركوب الموجة وتوجيه غضب الشارع نحو منافسهم الجمهوري الأشرس والرئيس الأمريكي الحالي ترامب، مدّعين أنه هو السبب في انتشار ظاهرة التمييز العنصري، رغم كونها ظاهرة قديمة وقائمة منذ تأسست الولايات المتحدة قبل خمسة قرون.
وكذلك حاولت جماعة الإخوان المسلمين، المنتشرة بشكل واسع داخل الولايات المتحدة ولها نشاط كبير في منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية الإسلامية وفي بعض الجامعات هناك، ركوب الموجة نظراً لخلافاتها التاريخية مع أجهزة الشرطة، في مشهد مشابه جداً لمحاولتهم سرقة ثمار الثورات العربية قبل تسعة سنوات، مستغلين الغضب الشعبي وحماسة الثائرين، لتحقيق أهداف جماعتهم السياسية، وهي المهمة التي نجحوا فيها مع الأسف، نظراً لأسباب كثيرة أهمها عدم تماسك الحركات الشعبية التي قادت الثورات العربية آنذاك.
لكن سرعان ما أدركت الحركة الشعبية الأمريكية أنه لا سبيل لإنجاح مساعيهم إلا بالتركيز على الهدف الرئيسي للاحتجاجات، ألا وهو "أرواح السود مهمة"، وبالتالي إقصاء كل الشعارات الأخرى التي تطالب بإسقاط إدارة ترامب، أو تسمح لطوائف دينية-سياسية مثل الإخوان المسلمين الأمريكيين بركوب الموجة، وأيضاً نبذ العنف كوسيلة للتعبير عن الغضب وإقصاء الجماعات الأناركية وعدم تبني موقفهم أو الدفاع عنهم، وأهم من كل هذا كان الالتزام بتطبيق أساليب وخطط المقاومة غير العنيفة، التي سبق وأنجحت الحملة التي قادها "مارتن لوثر كينج" ورفاقه في الخمسينات من أجل تحقيق العدالة للمواطنين السود والسماح لهم بالتمتع بحقوقهم المدنية، والتي كان من أبرز ثمارها أن تولى رئيس أسود، هو باراك أوباما، إدارة الولايات المتحدة الأمريكية، بعد نجاح حركة كينج بأربعة عقود.
ولعل هذا هو السبب الأعظم في نجاح الحراك الشعبي داخل الولايات المتحدة اليوم، ولا اعتقد أن تأثيره سيتوقف عند إجراء تعديلات على بعض القوانين أو اتخاذ إجراءات لإصلاح جهاز الشرطة، بل سوف يكون له تأثير كبير على مستقبل السياسة الداخلية في أمريكا بشكل واضح في السنوات القادمة، وبالتبعية سيتأثر كل من لهم مصلحة مباشرة مع الولايات المتحدة، سواء سياسية أو اقتصادية، في عالمنا العربي.
داليا زيادة
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!