الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • قواتُ سوريا الديمقراطية والمراهنةُ على الحصان الرابح

قواتُ سوريا الديمقراطية والمراهنةُ على الحصان الرابح
عبير نصر

فارق شاسع بين تركيا كمال أتاتورك -الذي طلب قبل وفاته من كبير دبلوماسييه، نعمان منمنجي أوغلو، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، وتجنّب المغامرات العسكرية الساعية إلى ضم الأراضي، الأمر الذي جنَّب تركيا ويلات الحرب العالمية الثانية- وبين تركيا أردوغان التي تسيطر دون أيّ وجه حقّ على أراضٍ شاسعة في شمال سوريا، وتحاول تغيير معالم الأوضاع الجغرافية والديموغرافية.

بل أبعد من ذلك، تسعى إلى محو طابع المنطقة من الأصل عبر أذرع عديدة، منها اللغة والعملة والإعلام. هي التي تبنّت ثقافة أنّ هزيمة أيّ أمة تبدأ من نقطة إزالة الرصيد الحضاري، وتدمير المعين التاريخي الذي تقوم به اللغة بتقوية جدار النسيج الاجتماعي.. ولا شك تتريك سوريا خطة استعمارية ممنهجة، بدأت فصولها مذ أدخلت تركيا قواتها مناطق الشمال بحجة مقاومة الأكراد المتمردين. في المقابل وعلى مرّ عقود، عانى الأكراد من سياسة تهميش اتبعتها الحكومات المتلاحقة. لكن ميزان القوى بدأ يميل لصالحهم مذ تصاعد نفوذهم بعد انسحاب قوات النظام السوري من مناطق تواجدهم مع اتساع رقعة النزاع، وبقيت مناطق الإدارة الذاتية خارج سلطتها. وفي الحقيقة يُحسب لوحدات حماية الشعب الكردية أنها من أوائل من واجه "داعش"، بدعمٍ عسكري أمريكي، ما أثار موجة انتقادات من جانب أنقرة التي تصنّف الوحدات كمنظمة "إرهابية"، وتعدّها امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض تمرداً ضدها. واليوم وبعد سنوات محتدمة من الصراع السوري، تجد قيادات "قسد"، التي راهنت على جميع الأحصنة لتحقيق مشروعها في إقامة دولة كردية، تجد نفسها وحيدة في محيط من الأعداء، تحاول البحث عن مخارج وتحالفات لحمايتها من عملية اجتياح تستهدف وجودها، وتجتثها من المناطق التي تحتلها، كذلك التفكير بإيجاد مظلات حماية بديلة.

بالتساوق مع ما سبق، لم تنفك أنقرة طيلة سنوات، بالمطالبة بخروج الميليشيات التابعة لحزب العمال من المناطق المحاذية لحدودها الجنوبية مع سوريا، والتهديد بشنّ عمليات عسكرية لتطبيق اتفاقية إبعاد هذه الميليشيات عن الحدود لمسافة ٣٠ كم، لكن مطالب تركيا وتهديداتها كانت تصطدم دائماً بموقفٍ سلبي من قبل روسيا والولايات المتحدة، الداعمتين لقوات سوريا الديمقراطية. ما استجدّ أن أردوغان أوضح مؤخراً وبثقة مطلقة أن "تركيا ستميّز في هذه المرحلة، بين من يحترمون حساسياتها الأمنية، والذين لا يكترثون سوى لمصالحهم، وأنها ستصوغ سياساتها مستقبلاً على هذا الأساس". تصريح وإن بدا تصعيدياً ومغامِراً لكنه يحمل في طياته إشارة ضمنية إلى أنّ إحدى هاتين الدولتين قد وافقتا على عملية تركية جديدة. يؤكد ذلك أنه وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي في أنقرة أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أنّ بلاده ستعمل مع تركيا بشكل مشترك على إخراج أولئك الإرهابيين من المنطقة، في إشارة صريحة إلى ميليشيا "قسد". بدورها، أكدت الأخيرة أنها مستعدة للتنسيق مع جيش النظام السوري لمواجهة تركيا. القرار جاء بعد اجتماع طارئ لكبار قادتها تناول تهديدات تركيا بشنّ هجوم جديد على أجزاء من شمال سوريا. في سياق موازٍ وفي مقابلة أجراها مع قناة "RT" الروسية، تنصل بشار الأسد من مسؤوليته في الدفاع عن المناطق التي ستستهدفها العملية التركية المرتقبة ضد ميليشيا "قسد"، رامياً بتلك المسؤولية على من أسماها بـ"المقاومة الشعبية"، في مؤشر على رغبته باستعمال موالين له من أبناء المنطقة ليضعهم في وجه المدفع.

وسط هذه المواقف المتضاربة، شدد المتحدّث الرسمي باسم "قسد" على أنّ "لا تغييرات في مواقع انتشار القوى الدولية"، في إشارة منه إلى قوات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، وتتواجد عناصره في مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، بالإضافة للقوات الروسية التي دخلت مناطق سيطرة هذه القوات لأول مرة في عام 2019 بعد هجومٍ تركي كان الثاني الذي يستهدف المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال سوريا، بعد سيطرة أنقرة على مدينة عفرين الواقعة شمال غربي حلب في العام 2018. وبينما التقديرات تظلّ متباينة حول حجم هذه العملية ومساحتها الجغرافية ووجهتها، يزيد الطين بلّة إصدار وزارة الخزانة الأميركية، ترخيصاً يسمح بأنشطة 12 قطاعاً في مناطق متفرقة، توزعت ما بين الشمال والشرق، حيث تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" وتحالف "الجيش الوطني السوري"، المدعوم من أنقرة. وعبّرت تركيا على لسان رئيسها، رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيته، مولود جاويش أوغلو، عن رفضها للقرار الأميركي، واعتبرته "شرعنة وجود حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في شمال وشرق سوريا".

بطبيعة الحال، الإعداد للعملية التركية ومتطلباتها ليست عسكرية لوجستية فقط، وإنما ثمّة شبكة أمان سياسية مطلوبة تتعلق بتسويغ العملية، وقبول مختلف الأطراف المنخرطة في القضية السورية بها وعدم إعاقتها لها. وحسب تقديرات مراقبين فإن الوجهة الأكثر ترجيحاً لأي عملية عسكرية تركية جديدة في سوريا ستكون مدينة منبج، حيث غالبية السكان فيها من العرب، وبالتالي لا تمثل رمزية بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي ومن خلفه حزب العمال، على عكس "عين العرب" التي تحظى بمكانة استثنائية لديهما، ناهيك عن رمزيتها بالنسبة للغرب، حيث تشكّلَ التحالف الدولي لمكافحة داعش من أجل مواجهة التنظيم في هذه المدينة. في المقابل يرى آخرون أنّ التلويح بالعملية العسكرية ليس إلاّ حديثاً سياسياً أكثر منه عسكرياً، والهدف هو تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب بالتزامن مع المفاوضات بين الغرب وأنقرة فيما يتعلق بانضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي/ الناتو، الأمر الذي سجلت تركيا تحفظاً عليه. كما أكدوا أنّ هذا الموقف التركي لن يدوم طويلاً بسبب الإجماع الحاسم في الحلف والمؤيد لانضمام الدولتين، وبالتالي فإن أنقرة تعمل على جني ثمار الظرف الاستثنائي هذا، وملف المنطقة العازلة هو أحد أهم الأولويات لديها، خاصة وأنّ الغرب من أشد المعارضين لأي هجوم تركي جديد في سوريا. وبمعزل عن التكهنات والتخمينات يبدو التهديد مختلفاً هذه المرة، وأكثر جدية نظراً لتوقيته وسياقه، اللذين يرتبطان بشكل وثيق بالحرب الروسية على أوكرانيا، والتي دفعت موسكو للانشغال عن الملف السوري جزئياً وإلى إعادة تموضع قواتها، مما قد يعني حدوث ثغرات وفراغ ستكون أنقرة من أوائل المهتمين بملئها.

ثانياً، تعيش تركيا حالياً حقبة تؤكد فيها للغرب، الولايات المتحدة وحلف الناتو، على أهميتها والأدوار التي يمكن لها لعبها، ويصعب على غيرها الحلول مكانها فيها على حدّ تعبير جيمس جيفري، السفير الأميركي السابق، في أنقرة. كذلك فإنّ التهديد يأتي في ظل حديث أنقرة عن إعدادها مشروعاً لإعادة مليون سوري إلى بلادهم، ومن أهم متطلبات ذلك المشروع مناطق تستوعب العائدين، كذلك ضمان أمنهم وعدم تعرضهم للقصف أو الاعتداء. وقد كان لافتاً حديث أردوغان -في سياق التلويح بالعملية- عن "منع الهجمات والاعتداءات على المنطقة الآمنة" وليس فقط على الجنود الأتراك.

صفوة القول هنا، إنّ العملية العسكرية تُبقي الباب موارباً لعديدٍ من السيناريوهات والاحتمالات، وتبقى الحقيقة الثابتة أبداً أن تركيا اليوم تضيف فصلاً جديداً من فصول الاستيلاء على الأراضي السورية، مستغلّة حالة الارتباك الحادثة في المنطقة لإشعال حروبها العرقية، وإحياء نزعتها القومية المتطرفة.

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!