الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
قلبُ البلادِ النازف
عبير نصر

تجدُ المعارضةُ السوريّةُ نفسها الآن، والتي بالغت في تقديرِ ذاتها، أسيرةَ إطارٍ عتيق لإنهاء النّزاع السوري، ومنذ البداية واجهت عقباتٍ جمّة أمام ضرورةِ تحوّلها إلى طرفٍ وازنٍ داخل سوريا، إذ كانت غير قادرة على ممارسة نفوذٍ ذي شأن مع تتابع النزاع فصولاً، وتضرب هذه المعارضة جذورها في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي عام 2005، الذي وقّعه ناشطون من كلّ ألوان الطيف السياسي. البلادِ 


ولأنّ هذه المعارضة شاركت في خطّة سلامٍ أشرفت عليها الأممُ المتحدة، وكانت تعود بأصولها إلى الحملةِ المدنية لصالح الإصلاح والتغيير، فهي تمتّعت بشرعيةٍ، ولم تُواجه شكوكاً جدّية بها في بداية الانتفاضة الشعبية، بيد أنّ تصاعد حدّة الصراع العسكري في البلاد، وما رافقه من أزماتٍ إنسانية، وتفاقمِ السمات الطائفية، خلق ديناميكيات همّشت على نحوٍ متزايدٍ الأبعادَ المدنية والوطنية، ما أدى في النهايةِ إلى التهميشِ الكامل للمعارضة السورية، وحين اختارت أن تعملَ خارج سوريا، بعيداً عن معاناة السوريين في الداخل، وعن مطامع الأطراف العسكرية، التي سيطرت بسرعةٍ على الديناميكيات المتطورة للنزاع المسلّح، حفرتْ قبرها بيدها، لتواجه بالتدريج مشكلةً كبرى في حقلِ شرعيتها الذي استحقته في زمنٍ مضى، وعن جدارة. البلادِ 


وفيما كانتِ المعارضةُ السياسيةُ تنغمس في لُججِ المناقشات حول جهودِ التوحيد أثناء المؤتمرات الدولية، كانت الفصائلُ الإسلامية تتولّى السيطرةَ على المراكز الرئيسية داخل سوريا، بالإضافة إلى غياب الردّ الموحّد والمتناغم للقوى الخارجية، سبّبَ ارتباكاً واسعاً في صفوف المعارضة، وعقّد جهودها للعمل على بلورةِ هدفٍ مشترك، فعلى الرّغم من الدعوات الإقليمية والدولية لدعمها، والتي جاءت غالباً في السنوات الأولى للنزاع، إلا أنّ الفصائلَ المسلحة التي تُسيطر فعلياً على الأراضي السورية، لم تلُقِ بالاً لا للوضعيةِ الدوليّة للمعارضة، ولا لمحاولاتها أن تكونَ لها كلمة في التطورات داخل البلاد، وحين بدأت حظوظُ المسلّحين بالتهاوي في العام 2016، لم يكن لدى هيئات المعارضة السياسية-المدنية المُعترف بسيادتها اسمياً على كل القواتِ المناوئة للنظام الحاكم، أيّ أدوات عمليّة، عدا الخطابات المطاطيّة الرنّانة. البلادِ 


والمعارضةُ التي كانت تمنّي نفسها بحكمِ سوريا، وتسلُّمِ مفاتيح دمشق خلال أسابيع، تشهدُ اليوم غياب أيّ تشكيلٍ سياسيّ واعٍ، أو تيارٍ وطني متماسك يحمل أهداف ورؤى الثورة السورية الحقّة، بينما قامت بتغليبِ مصالح الدول الكبرى على المصلحة الوطنية، وتقديمِ التنازلات، إلى جانبِ تجاهل قضيّة المعتقلين، باستثناء مطالباتٍ بقيت حبراً على ورق، والاكتفاءِ ببياناتِ التنديد والوعيد، وفي ظلّ غياب أيّ أوراقٍ مصيريةٍ بيد المعارضة السورية، تجعلها قوى وازنة ومؤثرة في اتخاذ أيّ قرار، تحوّلتِ الأخيرةُ إلى دمى، تحرّكها الدولُ اللاعبة التي تغضّ النظرَ عن مصالح الشعبِ السوري، خاصّة قضية المعتقلين الذين يبلغ عددهم، بحسب توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان (129989) معتقلاً، 85% منهم قيد الإخفاءِ القسري، فقضيتهم لم تكن سوى للاستهلاكِ الإعلامي، وتخديرٍ للمطالبين باتّخاذ موقفٍ جدّي، بعدم موافقةِ المعارضة على حضورِ أيّ اجتماعٍ دولي، أو أممي، أو تحت أيّ مظلة كانت، قبل الضغطِ على النّظام السوري للإفراج عن المعتقلين، الذين هم -في حقيقةِ الأمر- القلب النازف للجسد السوريّ، وجناح البلاد المكسور.


وفي سياقٍ موازٍ، تتداول وسائلُ الإعلامِ العالمية قضيةَ المعارضِ الروسيّ (أليكسي نافالني)، الذي اعتقل عند عودته من ألمانيا، لتسودَ الاحتجاجات في عشرات المدن، وعلى إثرها تعتقل الشرطةُ الروسية نحو (3500) متظاهراً، ردّدوا شعاراتٍ مندّدةً بالرئيس (بوتين)، مطالبين بالإفراج عن (نافالني)، المُحتجز في سجنٍ سيء السمعة، لتتحوّل الاحتجاجاتُ في موسكو والتي بلغت نحو (10) آلاف شخص على الأقل، إلى أعمالِ عنفٍ بين شرطةٍ تستخدم الهراوات، ومتظاهرين يرشقونها بكراتِ الثلج، وحجّة السلطات الروسية أنّ الاحتجاجاتِ غير قانونية، لأنها لم تحصل على التراخيصِ اللازمة، لكنّ المظاهرات أعطتْ زخماً جديداً للمعارضة الروسية، التي تراجع أداؤها كثيراً في السنواتِ الماضية، وتأتي حركةُ الاحتجاج هذه قبل أشهر من الانتخاباتِ التشريعية المرتقبة في الخريف، على خلفيّةِ تراجعِ شعبيةِ الحزب الحاكم، وتُعدُّ هذه المظاهرات الأكبر منذ تلك التي نظّمها (نافالني) خلال صيف 2019 في موسكو، على هامشِ انتخاباتٍ محليّة.


(نافالني) عاد إلى بلاده بابتسامةٍ واثقةٍ وقلبٍ شجاع، رغم ثقته المطلقة بأنّ نظامَ بوتين سيُلقي القبض عليه، هو الذي أصيبَ نهاية آب بمرضٍ خطير في سيبيريا، ونُقل إلى المستشفى في حالةِ طوارئ في برلين، بعد تعرّضه -بحسب قوله- لتسميمٍ بغاز الأعصاب من قبل الاستخبارات الروسية، ولا بدّ أن يستحضرنا في هذا السياق، اعتقال المعارض السوري (عبد العزيز الخيّر) في 21 أيلول من عام 2012، قرب مطار دمشق الدولي، مع عضو هيئة التنسيق (إياس عياش) و(عبد الرزاق طحان)، في طريقِ العودة من الصين، حيث مثّلَ (الخيّر) آنذاك هيئة "التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي"، في لقاءاتٍ خاصة بالعمليةِ السياسية في سوريا، وحاولتِ الهيئةُ التواصلَ مع النّظام السوري على أملِ حلٍّ داخلي للأزمةِ، وتجنيبِ البلاد خيار السلاح، ولعنة الدّم الذي لن يتوقّفَ في بلدٍ يطفو على أرضٍ متخمةٍ بالاحتقانات السياسيةِ والطائفية، وعلى الرّغم من اعتقاله عام 1992 لمدة 13 عاماً، وكان وقتها عضواً في حزب (العمل الشيوعي)، وناشطاً بارزاً ضمن صفوفِ المعارضةِ السورية، اختار (الخيّر) بعد 2011 لغةَ الحوارِ مع نظامٍ يقمعُ كلّ نزعةٍ للخروجِ عن تقديسِ عرشهِ وشخصهِ، والدليل على هذا أنّ وزير الإعلام، وقتها، (عمران الزعبي)، أكّد، وفي سبيلِ الانتقام من المعارض الذي تجرّأ على تحدّي العرش المقدّس، أنّ الثلاثةَ غير موجودين لدى أجهزةِ أمن النظام، وأنّ الجماعاتِ الإسلامية هي من اختطفتهم. البلادِ 


والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوّةٍ: ما حجم الحراك الذي قامت به قوى المعارضةُ، ومدى جديّته، لإخراجِ المعتقلين الثلاثة، وآلافِ المغيّبين قسراً؟ وهل يتجرّأ أحدٌ من شخصياتها البائسة، والتي ترحبُ بالعقوباتِ الأميركية على سوريا، وهي تعرف -ضمنياً- أنها تستهدفُ الطبقةَ المسحوقة، فما يضيرُ رئيساً يهدي زوجته لوحةً بملايين الدولارات، بينما شعبه يعيش لعنةَ القهر والذل والجوع؟، هل يتجرّأ أحدٌ منهم على تحدّي النّظام الحاكم، ودخولِ سوريا كما فعل (أليكسي نافالني)، ليحظى باحترامِ شعبٍ فقد الثقة بكلّ العالم، حتى بنفسه؟ هل يتجرّأ أحدٌ منهم على الصراخ في وجه العالم معترضاً على قراراته المجحفةِ بحقّ شعبه، نفسه العالم الذي حقّق للمعارضة السورية المالَ والشهرةَ على حسابِ الدّم السوري، وكلّ (معارض) ينتظر بسماجةٍ تثير القرف، تحرّكَ البيتِ الأبيض في قيادته الجديدة، لوضعِ إستراتيجية دوليةٍ متكاملةٍ، تضمنُ وقفَ جرائم النظام وحلفائه، وإنهاءَ الدّور الإيراني والروسي الهدّام، والعملَ على وضعِ نهايةٍ لمعاناةِ السوريين، وضمانَ انتقالٍ سياسي وفقاً لبيانِ جنيف وقرارات مجلس الأمن الدولي، والتي تبدو ضرباً من ضروب المحال، بينما تتشابكُ المصالحُ العالمية على الأرضِ السورية..، في ظلّ هذه المعطيات، من الطبيعي ألاّ تجد تنظيمات المعارضة مخرجاً من هذا المستنقع الآسن، والذي غرق فيه كثيرٌ من قواها، وصارتْ بعضُ تشكيلاتها عبئاً على الشعبِ الذي أعلنَ رفضه لها، وبات يبحثُ عن بديلٍ، وعن جسدٍ سليمٍ قويّ تتجسّدُ فيه روحه الأصيلة، بينما الواقعُ الحالي ينذرُ بانفجارٍ محتملٍ، لما يخبّئ قاعُه المظلم من قهرٍ وظلمٍ وفقرٍ واستعباد. البلادِ 


ليفانت - عبير نصر  ليفانت 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!