-
قراءة محايدة لصفقة القرن
لم يكد يعلن عن صفقة القرن بالأسلوب الدعائي الهوليودي حتى تحول الانتباه عن التهم الكبيرة التي وجهت لنتانياهو و ترامب أيضاً، فتوقيت الإعلان عنها جاء في خدمة مصالح هذين الشخصين، لذلك هناك من يسميها في إسرائيل وأمريكا (صفقة الانتخابات) التي يتحضر كلاهما لخوضها.
لكن توظيف توقيت الإعلان عنها لا يجب أن يغمض عيوننا عن مدلولاتها البالغة الأهمية، والتي تؤثر كثيراً على مسار القضية الفلسطينية، لأنها قد رسمت بالضبط الواقع الحالي الراهن الذي فرضته إسرائيل على مدى عقود، وتريد الآن إضفاء الشرعية عليه بقبول الفلسطينيين به كحل نهائي لقضيتهم.
تعوّد العرب الرد بطريقة عاطفية على كل المقترحات والمشاريع التي يقصد منها إنهاء الحرب، وأن يعبروا عن رفضهم الاعتراف بالنتائج التي انتهى إليها هذا الصراع المرير، فيستمر النزاع وتستمر سلسلة الهزائم وسلسلة التنازلات، وهذا من الممكن أن يتكرر الآن أيضاً، بالنظر لاستمرار الخلل الكبير في ميزان القوى لغير صف الشعب الفلسطيني ، فالإسرائيلي (عبر كوشنير) قد صمم صفقة القرن بطريقة تجعل الفلسطيني يخسر لو قبل بها ، ويخسر أيضاً لو رفضها ( وهذا من طبيعة الغطرسة التي يمارسها المنتصر على المهزوم إذا كان لا يأخذ بعين بالاعتبار أي مرجعية قيمية في حل الصراعات بين البشر).
لذلك كان الإعلان عن صفقة القرن من طرف واحد ومن دون تفاوض بمثابة صفعة وجهت للفلسطينيين، عندما رسمت واقعهم الحالي على خريطة مضحكة مبكية، بعد أن كانوا يسكنون وحدهم كل فلسطين قبل قرن. صفعة الغطرسة هذه أشعرتهم بخيبة الأمل الكبيرة من الدول التي شاركت الاحتفاء بها ، لأنهم لا يمكنهم القبول بتحكيم القوة وحدها عندما تكون المسألة قضية شعب يحرم من حق العيش على أرضه وفي وطنه، وعندما يتوقعون من المجتمع الدولي حد أدنى من الخجل أو احترام شرعته الدولية وما يدعيه من مبادئ، خاصة وأن اليهود أنفسهم (ومعهم قادة العالم) قد احتفلوا للتو بذكرى المحرقة التي تعرّض لها اليهود كشعب ضعيف ، و مع ذلك وبسبب معاييرهم المزدوجة لم يتورعوا عن استخدامها مبرراً لمأساة أخرى تصيب الشعب الفلسطينين وتحرمه من أرضه وحقوقه ، فيتسابق زعيمي اليمين واليسار على الترويج لها والقول بكل صفاقة أن هذه هي الفرصة الوحيدة والأخيرة المقبولة عندهم للسلام في هذا القرن.
النتيجة المباشرة الأولى لإعلان الصفقة من قبل الولايات المتحدة هو نعوة حل الدولتين الذي هو أساس حل القضية الفلسطينية منذ قرار التقسيم الذي تلا الحرب بين العرب والمهاجرين اليهود ، والذي رفضه العرب لأنه يعطي نصف أرضهم لمهاجرين جدد ، و قرروا بدلاً من القبول به طردهم بالقوة ، فخسروا معظم وطنهم وقامت إسرائيل على حدود ١٩٤٨، وكرر العرب هذا الرفض وسعوا لتحرير أرضهم فكانت حرب ١٩٦٧ حيث خسروا كل فلسطين ومعها سيناء والجولان . ومع ذلك قرروا الحرب مجدداً ، فكانت حرب ١٩٧٣ التي انتهت بعبور القناة باتجاه القاهرة ، وعبور سفوح جبل الشيخ باتجاه دمشق ، فتوقف إطلاق النار و بدأت المفاوضات على الاستسلام . استطاع السادات من خلال هذه المفاوضات العودة لحدود الهزيمة الأولى و استعادة سيناء ، والكثير من الإسرائيليين يعتبرون أنهم كانوا كرماء معه أكثر من اللازم ، لكن الأسد خشي الدخول الجدي في مفاوضات السلام مفضلاً حالة اللاحرب واللاسلم عليها ، بينما تابع الفلسطينيون مسيرة كفاحهم المسلح فكانت حرب لبنان التي استكملت هزيمة البندقية الفلسطينية وابعادها بعد احتلال بيروت ، وسادت حالة الهزيمة حتى اندلعت الانتفاضة المدنية الأولى للمناطق المحتلة التي أجبرت المجتمع الدولي على فتح مسار التفاوض من جديد لوضع حل ، فكان مسار أوسلو الذي انتهى بخطة لإقامة دولة فلسطينية على ما تبقى منها بعد الـ ٤٨ ، لكنها علّقت قضية القدس والمستوطنات واللاجئىن ، ومع ذلك وقع اتفاق السلام بترحيب دولي كبير ، واعتبر بعض الاسرائيليين أن عرفات قد حصل على أكثر مما يجب فقتلوا رابين ، وصاروا يضعون العقبات أمام إنجاز الاتفاق ، وهذا ما تناغم مع متشددين في الطرف الآخر ، حيث تحركت حماس (بهدف تقويض اتفاق أوسلو) لتبني العديد من العمليات ضد المدنيين الاسرائيليين ، ثم لاشعال انتفاضتها المسلحة المستمرة التي أدت لإعادة احتلال معظم الضفة الغربية وتقطيع أوصالها ، وتطبيق حصار خانق على غزة ، وزيادة مسعورة في الاستيطان بالضفة ، عبّرت عنه الخريطة الراهنة التي رسمته بكل دقة ، وقالت بصريح العبارة أن اتفاق أوسلو قد صار بحكم الماضي ، قبل أن تنعاه السلطة الفلسطينية من طرفها أيضاً.
الفلسطينيون لن يقبلوا بهذه الخطة وقد أعلنوا ذلك منذ أن طرحت عليهم بشكلها المبدئي ، ومع أن ترامب يعرف هذا الرفض مسبقاً أصر على طرحها، لأن هدفه من طرحها ليس توقيع الفلسطيني عليها، بل تبنيه هو كرئيس للولايات المتحدة لمقارتها وتبني بعض الدول أيضاً ، وما يترتب على ذلك من تقديم الهدايا لإسرائيل ( من قبيل الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ، والاعتراف بيهودية دولة إسرائيل ، وشرعنة الاستيطان وضم الأراضي ، وإلغاء نهائي لحقوق اللاجئين … ولا ننسى ضم الجولان بالمعية ).
ما قدمته الصفقة للفلسطينيين لا يمكن اعتباره دولة بأي منطق، بل مجرد سلطة حكم ذاتي مدني محدودة في بلديات منعزلة، لذلك إن قبل به الفلسطينيون أو رفضوه فهو عملياً إعلان لموت حل الدولتين ، وهذا ما يضع الفلسطينيين عملياً أمام حل وحيد هو حل الدولة الواحدة اليهودية العربية على كامل أرض فلسطين ، وهذا ما ترفضه إسرائيل بشدة ، مع أنه الحل السلمي الوحيد لتعايش شعبين هاجر أحدهم لأرض الآخر طالباً العيش معه عليها ، فمحاولة اسرائيل حذف الشعب الفلسطيني من الوجود هي محاولة شبه عقيمة بدليل بقاءه حتى ضمن حدود ١٩٤٨ ، لذلك لا أعتقد أن هناك حل سلمي غيره على المدى البعيد (عقود وليس قرن).
طبعاً، يوجد أمام الفلسطينيين خيار الرفض العسكري الذي تتبناه حماس ، لكن استمرار العمليات العسكرية يعطي إسرائيل فرصة ذهبية لزيادة (الاستيطان ، والقضم ، والتهجير ) ، وقد تستغل الظروف المضطربة في المنطقة لتهجير عدد كبير من عرب ١٩٤٨ والضفة باتجاه الأردن أو تشريدهم في أنحاء العالم ، والقيام بعملية تدمير منهجي لغزة بهدف إجبارها على التبعية النهائية لمصر ، بذات الوقت تحويل الفلسطينين في الضفة لمجرد أقلية عرقية ودينية تابعة للأردن ولا تتمتع بحقوق المواطنة ، فإسرائيل بطرحها لصفقة القرن تعتبر ضمناً أن الأردن أو قسم منه هو دولة فلسطين الفعلية ، وهذه هي النتيجة الثانية لصفقة القرن التي يجب أن ينتبه إليها العرب ، لأن الأردن سيتحمل معظم تبعات الصراع ، وسيوضع أمام تحديات أكبر بكثير من قدرته وإمكاناته ، فالقضية أبعد كثيراً من استئجار أراضي في الغور أو اتفاقية وادي عربة التي تحتضر هي الأخرى . خاصة وأن غياب العراق وفناء سوريا وضعف مصر وتراجع دول الخليج وتشرذمها وتخليها عن القضية الفلسطينية يشكل فرصة مؤاتية لفرض الحلول التي تريدها إسرائيل ، ولا يعوض عن ذلك تصريحات التركي أو دعاية الإيراني ، ولا يمكن التعويل على الموقف الروسي الحليف لإسرائيل أصلاً، و لا على اعتراض أوروبا العجوز المنشغلة في همومها الصحية.
عملياً لم تترك صفقة القرن للفلسطينين سوى خيار الرفض الذي يجمعون عليه ، لكن هذا الرفض إما أن يترافق بالعنف ، وهذا ما تريده وتنتظره إسرائيل لتستكمل فرض حلها عسكرياً بوجود حليفين كبيرين هما الولايات المتحدة وروسيا وحتى الصين ، أو أن يكون رفضهم سلمياً يتراوح بين الصمت والتجاهل الذي يسمح بفرض الأمر الواقع وتكريسه دون تغيير ، أو يترافق مع طرح مضاد سلمي آخر ( أقصد خيار الدولة الواحدة ) ، وتطبيق سياسات تسير بهذا الاتجاه نحو توحيد الشعبين ( على مبدأ تولستوي الأخوة الأعداء ).
إن الرد على صفعة السلام التي وجهها ترامب ، يمكن أن يكون بصفعة سلام مقابلة يوجهها العرب لهم ولكل العالم بطرح موضوع الدولة الواحدة التي تضم الشعبين ، فهي السياسة الوحيدة التي تجعل إسرائيل غير رابحة من طرح صفقة القرن بهذا التوقيت وهذه المواصفات ، وتترك الباب مفتوحاً أمام جهود السلام ، لأنها تستخدم الواقع الديموغرافي كسلاح فعّال في وجه غطرسة القوة في هذا الظرف ، وأداته موجودة : وهي الشعب المتمسك بأرضه وهويته وحقوقه ، ولا يعتمد على ضمير الإنسانية الميت أصلاً ولا على صواريخ إيران التي ستقوض آخر ما تبقى من فلسطين .
ما ذكرناه سابقاً هو مدولالات الصفقة من الجانب الفلسطيني ، فماذا عن مدلولاتها من الجانب الآخر أي الإسرائيلي:
إسرائيل التي تشعر بالقوة حالياً تغفل أهمية البعد الديموغرافي للقضية الفلسطينية، ولا تستطيع أن تدرك أنه بغياب دولة فلسطينية على أرض فلسطين ، لن توجد دولة يهودية على تلك الأرض ، فإلغاء أوسلو هو إلغاء للدولة اليهودية بالتوازي والتلازم ، والإصرار على مفهوم الدولة اليهودية التي تقوم على العرق والدين في ظل هكذا ظروف من التنازع على الأرض وتداخل الاستيطان عليها ، وتعطيل كل عملية سلام تقوم على حل الدولتين سيكون بمثابة وقود يغذي استمرار الحرب التي أعتقد أن إسرائيل أول من تعب من استمرارها ، وأنها أصبحت عاجزة عن تحمل أي تكلفة بشرية لها ، وهي أيضاً لا تدرك أن الظرف الدولي الراهن وميزان القوى الحالي يتغير وبسرعة ، والعالم العربي يشهد بركاناً سياسياً ، والذي يفترض أن يدفع إسرائيل للتعقل والتفكير بحل مقبول، وليس طرح مشاريع تسيء التقدير لتخدم مصالح أشخاص ، على حساب أجيال المستقبل .
بالمقارنة مع الوجود العربي في المنطقة والذي لا يتأثر بقيام وزوال الدول ولا بالاحتلال ولا بالحروب الأهلية فإن وجود اليهود في فلسطين مرهون حتى الآن بوجود دولتهم ، اسرائيل دولة تعتمد وجودياً على يقظة وقوة جيشها ، إذا أغمضت هذه الدولة عينها ليوم واحد تنهار ويتهدد الوجود اليهودي كله فيها ، بينما كان وجودهم سابقاً في المدن العربية غير مرهون بدول تقوم وتندثر على مر التاريخ ، فالسلام الحقيقي الذي يجب أن تنشده اسرائيل هو الذي يجعل وجود اليهود آمناً حتى لو فشلت الدولة أو اهتزت وهذا شائع في كل الدول ومتوقع بشكل دوري ، لأن الدول تمر بثلاث مراحل حسب نظرية ابن خلدون، قضمت إسرائيل منها مرحلتين حتى الآن مرحلة العصبية التي يتعيش عليها ويغذيها خطاب التخويف الذي ما يزال يعتمده ناتانياهو للفوز بالانتخابات ، ويغذيها أيضا العمليات التي ينفذها بعض الشبان الفلسطينيين هنا وهناك ضد اليهود ، لذلك تمددت تلك الفترة حتى غطت مرحلة الإزدهار ، التي لم يشعر بها الشعب بسبب التكلفة الأمنية العالية ، لكن مفاعيلها الحقيقية بدأت بالظهور ، على شكل عجز وترهل ، وعدم قدرة على تقديم التضحيات ، ونزاعات سياسية عقيمة لا يحركها سوى أهداف شحصية ، وجيل هزيل من السياسيين الوصوليين ، وأهم من كل ذلك انتشار وتفشي الفساد ووصوله لأعلى مستوى ، والمؤهب للانتشار الواسع لأن الثقافة السائدة عند الشرقيين تحمل كل الأسس المطلوبة ، ولا يقف أمامه سوى جهاز القضاء الذي تحاول صفقة القرن تعطيله والتعتيم عليه ، أي أن توقيت وطريقة طرحها يعبر عن مرحلة صار فيها السياسي عدواً للعدالة ، وهذا يهدد وجود إسرائيل كدولة وشعب بطريقة غير مباشرة عندما توظف صفقة السلام لحماية الفساد ، أو لتسجيل انتصارات وهمية لرؤساء لا يملكون مقومات السياسي النزيه والمؤتمن ، فالصبيانية السياسية وقلة العقل التي بدت واضحة على مصممي صفقة القرن ، هي من تحكم اسرائيل التي تتراجع بسرعة ، وأمريكا التي تغرق ببطء ، وستودي بهما نحو مزيد من الانحدار .
صحيح أن صفقة القرن عكست واقع العرب المرير المحزن ، لكنها عبّرت أيضاً عن خواء سياسي وعقلي وقيمي يحكم العالم ويتحكم بمصيره ، مما يثير القلق تجاه مستقبل كل الشعوب معا وسوية . لأنه بمثل هكذا قادة مافيويين يحكمون العالم الآن وهكذا طريقة تشبيحية في القيادة والمقاربات (التي لا تقتصر على القضية الفلسطينية بل السورية أيضا وغيرها) لن يكون العالم بخير ، لأن الانسانية مبنية على القيم وليس القوة ، وقريباً سنرى إلى أين سيوصلنا نظام العولمة الجديد الذي يقوده بوتين ترامب بينغ نتانياهو اردوغان خامنئي.
الدكتور كمال اللبواني - كاتب وسياسي سوري
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!