الوضع المظلم
الثلاثاء ٢١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
في ذكرى انتصار
طارق عزيزة

تحت طبقات سميكة من التراث الفقهي ومدوّنة الأحاديث والمرويات الدينية الخاصّة بالشيعة الاثني عشرية وأئمّتهم وعلمائهم، تقبع حالة سياسية عُرف عنها معارضتُها المستمرّة لسلطات الحكم المتعاقبة في التاريخ الإسلامي عموماً، وفي طوريه الأمويّ والعباسيّ على نحوٍ خاص، شكّلت الأساس الذي بني عليه المذهب الشيعي. تغليف الموقف السياسي ذاك بغلاف ديني، كان واحداً من التمظهرات الأولى لتسييسِ الدين وتديينِ السياسة في الإسلام، وهي مسألة ترسّخت لدى الشيعة حتى أضحت جزءاً أساسياً من صلب عقيدتهم، التي تدور حول نظريّة "الإمامة"، وما تفرّع عنها من "ولاية الفقيه" أو ما يسمّى "نائب الإمام الغائب".


لكنّ فكرة "ولاية الفقيه" تعزّزت على يد "آية الله خميني" الذي أعطاها أبعاداً جديدة لم تُعرف من قبل، وأقام على أساسها نظامه المسمّى "الجمهورية الإسلامية" في إيران، بعد أن استطاعت "الحركة الإسلامية"، بقيادته، قطف ثمار الثورة الشعبية التي أسقطت نظام الشاه، في مثل هذه الأيام من عام 1979.


وإذا كان تحالف السلطة السياسية مع سلطة رجال الدين إحدى أشهر وصفات الاستبداد وأكثرها نجاحاً، فإنّ ما يفوقها تسلّطاً واستبداداً هو اجتماع السلطتين السياسية والدينية في قبضة واحدة تتحكّم في دين الناس ودنياهم، فتدّعي أنّ سياساتها وحروبها وعداواتها وصداقاتها وتحالفاتها ومكائدها، تنطلق جميعاً من أوامر "إلهية" مزعومة. هذا ما فعله الخميني و"آيات الله" منذ استيلائهم على الحكم في إيران، وهو النموذج الذي أرادوا تحت شعار "تصدير الثورة" نشره في المنطقة للهيمنة عليها. من حظّ لبنان العاثر أنّه من الوجهات التي وصلتها بضاعة الخميني باكراً على أيدي "الحرس الثوري"، وسرعان ما "ازدهر" سوقها بالدعاية والمال والسلاح، حتى انتهى البلد رهينةً في يد "دولة خمينية" تُدعى "حزب الله".


في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وبما حملته من أفكار وأيديولوجيات وطنية وعلمانية، تمكّنت الأحزاب اليسارية والقومية في لبنان من الانتشار في الأوساط الشعبية الفقيرة والضواحي المهمّشة، فاجتذبت أعداداً كبيرة من شبّان الشيعة، وخلال الحرب اللبنانية قاتل كثيرون منهم في صفوف القوات المشتركة للحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية. غير أنّ الحال تغيّر مع ظهور "حزب الله" ضمن أجواء الاقتتال الطائفي، إذ سعى "الحزب الخمينيّ" الناشئ إلى استنفار الانتماء الديني والإيمان الشخصي لدى الشيعة، لاسيما الشباب الأصغر سنّاً، وعمل بشتّى الوسائل على تحويله إلى عصبية وولاء أعمى للطائفة، لكن عبر الحزب الذي زعم الدفاع عنها والتعبير عن هويتها ومصالحها، والتي يقرّرها الحزب طبعاً. فالهويّة الشيعية المستحدثة اكتست ملامح خمينيّة، والمصلحة باتت تتحدّد بما يخدم "الجمهورية الإسلامية" ومشروعها.


لقد نجح "حزب الله"، إلى حدّ كبير، في السطو على هوية وثقافة الشيعة في لبنان، وفرض عليهم هويّة غريبة عنهم، جعلت منهم أدواتٍ في مشروع الهيمنة الإيرانية. وكأّي حركة دينية مسلّحة ذات مشروع سلطوي شمولي، لا يقبل "الحزب الخميني" بأقلّ من الطاعة التامّة والخضوع المطلق لسلطته، دون اكتراث لأي اعتبارات أخلاقية أو قانونية أو اجتماعية أو دينية أو سواها. لذلك لم يتورّع يوماً عن استخدام القوة لإخضاع المخالفين أو المعترضين، من الشيعة قبل غيرهم، معتمداً أساليب القتل المعنوي المترافق مع الترهيب والعنف العاري، من تهديدٍ وخطفٍ وتعذيبٍ وصولاً إلى الاغتيال، وما جرى مع لقمان سليم شهيد الكلمة الحرّة، ليس إلا حلقة في سلسلة نهج فاشي يعتمده "حزب الله"، ومن ورائه إيران، في إسكات كلّ معارض لهذا المشروع التسلّطي الطائفي البغيض.


إنّ "حزب الله" يشكّل القاعدة التي مكّنت "الجمهورية الإسلامية" من تحقيق جزء أساسي من استراتيجيتها في المنطقة، فلم يقتصر تأثيره على لبنان، وإنّما وصل إلى كلّ بقعة أرادت إيران العبث فيها. فالتجربة التي اختبرتها الخمينية في سياق الحرب اللبنانية جرى تعميمها لتشمل اليوم سوريا والعراق واليمن، واليوم تنشط عشرات الأحزاب والحركات والمنظمات الدينية/ العسكرية الشيعية التي ترعاها إيران، وتمارس التكفير والتفجير والإرهاب، بفتاوى "الولي الفقيه" ووكلائه. حتى "الجهاد العالمي" لم يعد حكراً على السلفيين الجهاديين السنّة، فالميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات تعبر الحدود، وتقاتل من دولة لأخرى وفق توجيهات ملالي إيران. والذين التحقوا بهذا المسار كفّوا عن كونهم "مسلمين شيعة" أو شيعة لبنانيين أو سوريين أو عراقيين، ليصبحوا "شيعة خمينيين"، أي إنّهم يؤمنون - من حيث دروا أم لم يدروا - بنسخة شيعية معاصرة، جرى تعديلها أيديولوجياً وسياسياً على يد النظام الثيوقراطي الذي أسّسه الخميني، وفق متطلّبات مشروعه التوسّعي.


ما سبق يوجب القول بأنّ التطرّف الديني العنيف، أو "الإرهاب"، وكذلك استخدام الدين سياسياً، وسواه من مخاطر تولّدها أو تكرّسها ظاهرة "الإسلام السياسي" ليست من اختصاص حركات وأحزاب "الإسلام السياسي" بشقّه السنّي فقط، على ما يعتقد و"ينظّر" كثيرون، منطلقين من دوافع طائفية أو مصلحية. فالكلام نفسه ينطبق على "الإسلام السياسي" الشيعي، والذي يزداد خطره يوماً بعد يوم نتيجة الجهد الإيراني الحثيث في نشر لوثة التطرّف المذهبي وآفة الإرهاب في أوساط المسلمين الشيعة، كرمى لأطماع "الجمهورية الإسلامية" التي تتغذّى على أشلاء البشر والأوطان.


طارق عزيزة


ليفانت _ طارق عزيزة

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!