-
"في انتظارِ البَرابِرة" لـ "جون ماكسويل كوتزي".. فَزَّاعاتُ القَمْع
تتفنّن الأنظمة القمعية في ابتكار أسباب بقائها على قيد الاستبداد فيكون ثمن أساليبها تلك شعباً وأرضاً وتاريخاً، حاضراً ومستقبلاً، تمضي غير آبهة خلف غيّها وغطرستها، لا شيء نصب عينيها سوى الهيمنة، لعل خلق الفزاعات وابتكار الأعداء وبثّ المخاوف من أكثر الأساليب التي اتخذتها وما تزال. البَرابِرة
هذا ما عرضه "جون ماكسويل كوتزي" في روايته "في انتظار البرابرة" التي تحكي احتلال إمبراطورية لم يسمها، ترك لمخيلتنا حرية تصورها، لأرض البرابرة الذين غادروا، رحلوا إلى أقصى مكان يمكن أن يوفر لهم ما تيسر من حياة، بيد أنّ الامبراطورية التي يحكمها العسكر لا يمكن أن يستتبّ لها الحكم دون وجود عدو يهدّد أمن البلاد، عدو مزعوم أشاعت أنّه يتربّص بها الدوائر ويعدّ العدة للانقضاض عليها.
المكان بلدة حدودية كانت وادعة إلى اللحظة التي حلّت فيها حامية الإمبراطورية بقيادة العميد "جول" للانطلاق منها باتجاه مضارب البرابرة، الحامية التي أسرت عدداً من البرابرة واقتادتهم إلى معسكر البلدة للتحقيق معهم وتعذيبهم وقتلهم.
الراوي في النصّ قاضٍ يدير الشؤون القانونية للبلدة يستهويه البحث في تاريخها، ينبش ترابها للعثور على لقىً تشير إلى أن ثمة حياة كانت على هذه الأرض، وفي مقابل إصرار الحامية على أنّ البرابرة يعدّون العدة للهجوم على البلدة. يحاول القاضي قدر استطاعته إقناع قيادتها أنّ البرابرة رحلوا، وأنّهم لا يضمرون الشر بالإمبراطورية، وأنّ جلّ همهم العثور على حياة في مكان ما، لكن دون جدوى. البَرابِرة
تقع عينا القاضي على فتاة عُذِّبَتْ في التحقيق حدَّ حرق عينيها، فيطلب منها العمل لديه والنوم مع السيدة التي تدير المطبخ، تقبل الفتاة، لكن القاضي الذي كان له سابقاً مغامرات مع النساء ينشغل بها حَدَّ غسل قدميها وتدليك جسدها بالزيت واتخاذها خليلة تنام في سريره لا ينقطع عنها.
يقرّر القاضي إعادة الفتاة إلى أهلها البرابرة في رحلة رفقة ثلاثة فرسان، رحلة كانت أقرب إلى مغامرة كان من الممكن أن تودي بهم جميعاً، ليُعْتَقَلَ حال عودته بتهمتَيْ التفاوض مع البرابرة وإبلاغهم بشأن الهجوم عليهم وإقامة علاقة مع مومس أضرت بهيبة الإمبراطورية، فيفقد عمله ويعذب حتى مشارف الموت ويرمى به متسكعاً في أزقة البلدة.
"أردت أن أعيش خارج التاريخ الذي تفرضه الإمبراطورية على مواطنيها الخاسرين، لم أرغب قط أن يكون لزاماً على البرابرة تحمل مسؤولية تاريخ امبراطورية".
يهيمن الجيش على البلدة تحت فرية نية البرابرة الهجوم عليها، ينهبون البيوت ويقتلون الأهالي دون رادع، إلى اللحظة التي يعود فيها العميد "جول" مندحراً خاسراً من غزوته بعد أن ضيعه البرابرة في الصحراء ومات جنوده في الثلج، يتزود بالمؤونة ويفرّ هارباً من عاره إلى العاصمة تاركاً خلفه البلدة مدمرة مذعورة ليعيد القاضي ومعاونوه إليها الحياة ما أمكن، ولا يأتي البرابرة.
"عندما يتذوق البرابرة طعم الخبز، خبز طازج ومربى التوت، خبز ومربى المشمش، فإنّ أساليبنا هي التي ستستهويهم، سيكتشفون أنّهم غير قادرين على العيش من غير مهارات رجالنا الذين يعرفون كيف يجعلون نباتاتنا المنتجة للحبوب تنمو عالياً، حبوب المحيط الهادئ، ومِن غير براعة النساء، من ذا الذي يعرف كيف يتعامل مع فواكهنا العذبة؟".
حين يجتهد القاضي لإثبات أن حياة كانت في هذه الصحراء يسعى العسكر لقتل حياة الماضي والحاضر والمستقبل، حيث يكافح القاضي لتحقيق العدالة ورفع الجور عن البرابرة حتى يكاد يدفع حياته ثمناً لذلك، تذهب الإمبراطورية في حماقاتها بعيداً حَدَّ التضحية بجيشها من أجل ضمان بقائها.
وعلى مستوى السرد، فقد جاء لاهثاً دون توقف، شيقاً دون إطناب، مثيراً دون تكلف، رغم أنّ الكاتب قسم الرواية إلى أجزاء ستة، لكنها كانت كتلة سردية واحدة لا يمكن فصم عراها أو رسم خطوط فاصلة بين مشاهدها على الرغم من تعدّد الأمكنة، حين كان ينام مع الفتاة العمياء كان مشهد المعسكر حاضراً وتفاصيل المعسكر بادية في المخيلة، حين كان يعبر الصحراء ذهاباً وإياباً في رحلة إعادة الفتاة إلى أهلها لم يغب مشهد البلدة أبداً، حين كان القاضي يتوسّل كسرات الخبز المتبقية من وجبات العسكر كان مشهد الصيادين الهاربين إلى البلدة يحيطونها ببيوتهم التي ارتجلوها من القصب واضحاً تماماً، حين بارك رجل الثلج الذي صنعته أيدي الأطفال الناعمة في المشهد الأخير كان غد البلدة المأمول المشرق يتشكل جلياً.
يخلع "جون ماكسويل كوتزي" في نهاية الرواية رداء القاضي ويخرج من النص ليمضي في طريقه الطويل ساعياً وراء العدل، الطريق الذي "قد لا يؤدي إلى أي مكان". البَرابِرة
ليفانت - نزار غالب فليحان ليفانت
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!