الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
فضل المعارضة السورية على
شيروان ملا ابراهيم

كان لانتشار اللصوصية والجريمة في منهجية حكم فصائل المعارضة السورية المسلّحة والفلتان الأمني وفوضى السلاح في مناطق سيطرتها، وتحريف مسار الثورة السوريّة، و تعزية بعضها على الخطاب الجهادي الراديكالي، من الأسباب الجوهرية الرئيسية خلف مخاوف غالبية سكان شمال وشرقي سوريا في رفض الهجوم التركي على المنطقة.


والحال أنّه ليس حصرياً بحب هؤلاء لقوات سوريا الديمقراطية وليس لأن كل من يقف ضد الهجمة هم من أنصار هذه القوات، فكريّاً ومناصرةً، كلا، بل لأن الذاكرة الجمعية للناس تجاه ماضي وحاضر المعارضة، هي التي أقنعتهم بأن دخول فصائلها المسلحة، سيكون عامل رعبٍ وقلقٍ أمني، وتهديد وجودي بالنسبة للكثيرين، أياً كانت توجهاتهم.


كان موقف الأصوات الكرديّة التي تعمل خارج فلك سياسات منظومة "الإدارة الذاتيّة" ومؤسّساتها المدنيّة والعسكريّة التي يهيمن عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، أثناء عملية غصن الزيتون التركية، مارس 2018، يكاد ينحصر في توثيق الانتهاكات والتركيز على أنّ حزب الاتحاد الديمقراطيّ هو الذي جرّ تركيا إلى حربٍ هي بالأساس صراع بين حزبه الأم العمال الكردستاني وتركيا، لذا كانت معركة عفرين، ربّما في منظور شريحة كبيرة من الرأي العام الكردي لم تتجاوز فكرة أنّها صراع عسكري وسياسي تركي على أرض غير سورية.


لكن، بعد النجاح العسكري لعملية غصن الزيتون وسيطرتها على مدينة عفرين ومحطيها، وثّقت المعارضة السورية أولى إنجازاتها، بسرقة منازل المدنيين ومحالهم التجارية، وماشيتهم لا بل وحتى دجاجاتهم، والاستيلاء على مقدراتهم الاقتصادية والمجتمعية، فضلاً عن التهجير. وكان الأسوأ في هذا الجانب هو قيام عناصر الفصائل بتوثيق هذه الجرائم بنفسها بالصوت والصورة، وهم يتباهون بافعالهم.


لقد خلّفت تجربة عفرين، قناعة لدى الكرد، بأنّ هذه الجرائم هي عملية ممنهجة تستهدف وجودهم، وأنه ثمّة خطّة عمل واضحة لتهجيرهم وإحلال وجودهم في شمال سوريا، وهذا ما كوّن في ذهنيتهم، حالة أن لا بديل يمكن أن يدير مناطق عيشهم سوى قوات سوريا الديمقراطية؛ فإذا كانت "قسد" أو الإدارة الذاتية، قد فرضت هوية أيديولوجية عليهم، إلّا أن الفصائل المعارضة إلى جانب أنها فرضت أيديولوجية دينية متطرفة، فإنها من الممكن أن تستولي على مفاصل حياتهم وسلب منازلهم. ومن ثم تسليم مناطقهم للنظام السوري، وفق تسويات بين تركيا وروسيا وإيران، وطبعاً بعد تدميرها وتعريضها لقصف الطيران السوري الروسي، كما حصلت في السنتين الأخيرتين.


لقد حوّلت تجربة منظومة الإدارة الذاتيّة، مناطق سيطرتها، إلى محميّة أيديولوجيّة لصالح سياسات حزب واحد مارس الشموليّة في كل القرارات المصيريّة، وباتت خروقاتها وانتهاكاتها واضحة، وسكّان شمال شرق سوريا على دراية تامة بتلك الانتهاكات والتجاوزات. إلّا أنّه رغم كل ذلك، لم تصل إلى مستويات ما فعّلته المعارضة السوريّة من شرعنة لفوضى السلاح الذي أدى ويؤدي إلى الجريمة والسرقة والنهب في مناطق سيطرتها، خاصة في السنتين الأخيرتين، ولو كانت تجربة الحكم لدى المعارضة توازي أو تقارب تجربة حكم قوات سوريا الديمقراطية وليست أفضل منها فحسب، على الأقل في مستوى الأمان النسبي، فربّما كانت المواقف الكردية، متعددة ومختلفة، وليست كما الآن متراصّة ومتقاربة إلى هذا الحد والاجماع في رفض حكم المعارضة.


في مطلق الأحوال، فإنّ هذه الأسباب، أدت إلى اتساع دائرة التأييد لصالح قسد التي كسبت من خلال الهجوم التركي الأخير أعداداً كبيرة من المؤيدين، مثقفين وسياسيين وصحافيين ومدنيين، منهم من كانوا من أشدّ المختلفين معها، ولم يكن بسبب عاطفة قومية كردية بحتة في البداية، بل تم تحويلها إلى ذلك، سيما وأن هذه الحالة التي لم تكن تتوفّر قبل الآن؛ فقد سبق وأن دخلت "قسد" وقبلها وحدات حماية الشعب الكردية في معارك بمناطق عدة مع قوات النظام السوري أو فصائل المعارضة، لكنها كانت تُقابل بالرفض الكردي أحياناً، أو لم تكن تحظى بدعم شعبي وسياسي سوى من أنصارها فقط، لكن الذاكرة الأليمة للناس حول ما فعلته المعارضة سابقاً في مناطق أقرانهم، أجبرتهم وأقنعتهم أن هذه الحرب، على شمال شرق سوريا هي معركة الوجود واللا وجود، البقاء أو الفناء، بالنسبة لهم، في وجع فصائل مسلّحة، جلّها تشكلت من أبناء مناطق سورية أخرى، من الذين سلموا مناطقهم لقوات النظام.


هنا يجدر بنا الذكر، بأن تقييم التيارات الكردية تجاه سياسات تركيا، لا تزال مختلفة، بين من يعتبرها عدو أزلي وجوهري لهم، وبين من يرى أنّ التنظيمات المحسوبة على حزب العمال الكردستاني هي التي تقدّم الذريعة لتركيا لشن هجوم على مناطق سيطرتها في سوريا. لكن، بموازاة ذلك، فإن مواقف جميعها بلا استثناء، توحدت وأجمعت في الفترة الأخيرة على رفض وجود فصائل المعارضة السورية التي بات تعريفها "الفصائل الموالية لتركيا"، ولم تعد ترى فيها قوات مسلحة للثورة السورية كما كانت عليه في السنوات الأولى من انطلاقها.


عام 2004، إبان الانتفاضة الكردية في سوريا، قيل أن وفداً أمنياً بقيادة ماهر الأسد قدم إلى مدينة قامشلي "لاحتواء الأزمة"، وكان من بينهم اللواء الشهير في محافظة الحسكة، محمد منصورة، إلى جانب محافظ الحسكة وقتذاك سليم كبول، الذي أصدر أوامر إطلاق النار على المحتجين الكرد؛ حيث قال منصورة حينها لـ كبول: "لقد عملت طيلة العقدين الماضيين على تفرقة الكرد، لكنك، بتصرفك هذا، وتسرّعك، وحَّدتهم في عدة دقائق". وربّما اليوم، فإن انتهاكات المعارضة السورية، حولت الكثيرين من معارضي قوات سوريا الديمقراطية إلى مؤيّدين لها؛ فرغم عدم توفّر اجماع للأحزاب والتكتلات السياسية الكردية حول موقفها تجاه تركيا. لكن، في المقابل ثمّة اجماع لغالبية مجتمعية كردية، بالإضافة إلى مجموعات سورية أخرى تجاه رفضها للمعارضة السورية الموالية لتركيا بشقيها السياسي والعسكري، وهذا ما كان الدافع الرئيسي لاتساع رقعة الدعم الجماهيري لـ "قسد" فجأة بالشكل الذي عليه الآن.


كاتب وصحفي سوري

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!