الوضع المظلم
السبت ٠٩ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
عندما بكى الله
عماد أيو
ربما يبدو العنوان مُستهجناً أو مُستفزاً للبعض، وقد يراه البعض الآخر مأخذاً علينا. أما نحن فنراه مدخلاً حيوياً لمقاربة المآزق والأزمات التي باتت تندرج في خانة المعضلات المُستعصية.

لابد من التنويه بداية على أنّ السخرية كما نعلم -وتعلمون- في جوهرها الأعمق في كثير من الأحيان تنبع عن الوجع والخيبة والمرارة، فحين تنهمر على المرء الخيبات، كما كتب مرّةً الممثل الفذ تشارلي شابلن، يلجأ غالباً إلى الفلسفة أو السخرية.

كما لا بد من الإشارة إلى أنّ مفردة السخرية ستتكرر مراراً -شكلاً ومضموناً- في سياق المقال، والسبب ليس شح المترادفات بل هي وفيرة، مثل الفكاهة والتندر والدعابة والكوميديا السوداء والتهكم والهزل. بالرغم من أنّ كل هذه الكوكبة من المفردات تصب في بحر السخرية، غير أن كل منها تؤدي وظيفة مغايرة عن الأخرى، استخدامنا المُلح لمفردة السخرية قد تعني ما تقصده واحدة من تلك الدلالات، وقد تعني أيضاً كل الدلالات مجتمعة.
لطالما تم اللجوء للسخرية كأداة نقدية لتعرية عيوب ونقائص وعلل وظواهر سلبية اجتماعية وسياسية، وشكل من أشكال المقاومة الفردية (وحتى الجمعية) في الآداب والفنون وحياة البشر المعاشة، وسط مناخات من الجور والقهر وانسداد الآفاق، منذ أرستوفانيس وموليير وبرنارد شو وليس انتهاء مع الشعوب المغلوبة على أمرها من بدايات التجمع البشري وتشكلات ما يُسمى بالحضارات القديمة، مروراً بالتجارب المأساوية لتطبيق الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي سيء الصيت، وصولاً إلى مجتمعات الربيع العربي وتجلياته (الثوروية) الخنفشارية الأصولية.
ففي المجتمعات التي يفترض انتصار (الثورة) صورياً فيها، مثل مصر، تم تدوير النظام وإعادة إنتاج العسكر مجدداً، أما في المجتمعات التي هُزمت فيها أو في طور الهزيمة بسبب هيمنة التيارات الراديكالية الجذرية من الإسلام السياسي، مثل تنظيم النصرة وأخواتها وحركة الإخوان المسلمين في سوريا، حتى وإن اعتبرت نفسها هذه الأخيرة محسوبة على التيار المعتدل والوسطي. كانت السخرية والنكات اللاذعة زاد الناس وقوتهم المفقود والمُترتب عن قمع الحقوق والحريات. السخرية المتفشية سراً والتي يتبادلها الأفراد حتى غدت مُنتشرة كأيقونات في عموم المجتمع.
غالباً الساخر أو منتج السخرية ومبدعها يكون فرداً ثم تتطور السخرية على شكل نكتة من فرد لآخر حتى تصبح كما لو أنّ الشعوب بعبقريتها الخلّاقة خالقة لأنصالها الحادة. كما وهنا أمر فائق الأهمية وجدير بالملاحظة، فحواه أنّ الفرد والجموع لا تسخر فقط من تسلّط وعنف وتعسف السلطات الشمولية في شقيها السياسي والاجتماعي، بل (وهذا جزء من دهاء وفطنة الشعوب الفطرية) تسخر من ذواتها مُستعينة بمفاهيم علم النفس دونما حاجة حتى للإطلاع على سيرورة هذا العلم.
إذاً لا مناص من السخرية من الذات الفردية والجمعية بكافة تبدياتها السياسية حتى يحظى المرء بمصداقية ما وحتى تستطيع السخرية الإثارة، وبالتالي قابلية الحياة والديمومة.

بعد عقد قيامي وعشرية تراجيدية في سوريا، وما أفرزته من انقسامات في النسيج السوري المنقسم أصلاً، صارت السخرية سلاحاً بالموازاة مع الأسلحة الفتاكة، لكن تلك السخرية المسمومة من طرف حيال الأطراف الأخرى دون السخرية من ذاتها المعصومة.
والآن قبل أن تسخر من أرواحنا المكلومة، لا بد لفت النظر على أنه في أوقات السلم، ينشأ حزب ما يُعرف بحزب (الكنبة)، وهو حزب بلا هيكلية ولا هرمية ولا قيادة ولا منابر ولا محافل ولا مؤتمرات ولا تمويل، حزب عفوي قوامه ناس غير مُتحزبين، لا ينتمي للسلطة ولا للمعارضة، لكن لدية اجتهاداته وقراءاته في مجمل الكل الاجتماعي بكافة تبدياته. وفي أوقات الحروب وما تسفر عنه من وقائع ومعطيات مستجدة، من نزوح وكوارث بوسعنا تغيير اسم الحزب من (الكنبة) إلى (حزب الخيمة أو المخيم أو الحيّز المستـأجر أو العراء). وبطبيعة الحال المنتمون لحزب العراء يتألفون من شرائح مختلفة من التكنوقراط والكفاءات والبسطاء والحرفيين والعمال والفلاحين... إلخ. هؤلاء المُهمشون والمُهشمون يعيشون على نبض وإيقاع متباين عن أصحاب الولاءات والانتماءات السياسية الواضحة. لديهم أسئلة قلقة ومُقلقة، أسئلة تقضّ مضاجعهم، ومن فيض تلك الأسئلة نوجه غيضها للطيف السياسي الفاعل، وخاصة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وما ينضوي معه من أحزاب متناسلة، والمجلس الوطني الكردي في سوريا بمجموع أحزابه المكونة له.
حيال الاحتلالات المتتابعة لمناطق كردية من عفرين ورأس العين وتل أبيض وما يجري فيها من تغيير ديموغرافي، وحيال التهديدات المتصاعدة حالياً من قبل المغولي الجديد والطاغية العثماني المُنفلت من عقاله والذي بات عصياً على اللجم بشهيته الشرهة والمريضة، وأمام هذه المخاطر الوجودية، ما مصير الحوار الكردي - الكردي؟ وإذا كان لا يُخفى علينا سياسة المحاور والقرارات المرتهنة لهذ الطرف وذاك، نتساءل إذا لم تصل الآن إلى نتائج متى ستصل إذاً؟ وخاصة بعد الأحداث المتتالية، والتي كل منها على حدة تشكل تشرنوبلاً أو بمثابة هيروشيما جديدة تهدد الكرد في وجودهم الفيزيقي.
قبل عدة أيام صدر بيان خجول من قبل المجلس الوطني يدين ويشجب الانتهاكات في المناطق الكردية المُحتلة من تركيا عبر أدواتها من المرتزقة. حسناً أن تصحو أفضل من ألا تصحو أبداً. ولكن السؤال المشروع، أما كان من الأجدر والأجدى في المقام الأول أخلاقياً وقومياً ووطنياً تجميد عضويتهم فيما يدعى الائتلاف في أسوء الأحوال، والانسحاب نهائياً منه في أحسن الأحوال.. ثم يخرج بعد بيان الإدانة أحد رموز المجلس ليقول على قناة "روداو" نحن حاورنا هيئات الائتلاف فيما يتعلق بالانتهاكات وهم قد وعدونا لكن يبدو، على حدّ قول السياسي، ليس لهم سلطة على الفصائل جيش الارتزاق ونعت الارتزاق من عندنا.. فتصوّر يا رعاك الله.
وعلى الجانب الآخر، أمام الأوضاع المتردية للعباد والبلاد، تتفشّى بشكل سرطاني عمليات تبييض الأموال وظاهرة الثراء غير المشروع والفساد والإفساد في سلطة الإدارة الذاتية، ومع رفع أسعار المحروقات ومادة الخبز بقرارات أقل ما يُقال عنها أنها قرارات لا تهتم إلاّ بالمزيد من تكديس الثروات. كما لو أنّ هذا كله ليس كافياً، يتم الاعتداء على مكتب قناة رادو في القامشلي من قبل شبيبة الثورة التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي واعتقال أصحاب الآراء المختلفة عنهم.
يُضاف إلى هذا وذاك، أن كلا الطرفين يُنظر ويناظر بالديمقراطية جهاراً نهاراً، وصباحاً مساءً، دون أن يكف أحدهما عن تخوين الآخر وشيطنته، وهم يعرفون جيداً (وقد لا يعرفون من يدري) أنهم سُيتركون وحدهم يمارسون ديمقراطيتهم التناحرية لو فُتحت الحدود عندها لن تكون مشاهد مطار كابول في أفغانستان إثر الانسحاب الأمريكي سوى بروفة هزيلة أمام ما سيحدث لدينا، وخاصة بعد استحالة الوصول، أو أقله الوصول في المدى المنظور، للخروج بنتائج إيجابية للحوار الكردي - الكردي، وتصاعد النبرة الفاشية لهتلر القرن الواحد والعشرين، أردوغان، وتفاقم الأزمة الاقتصادية لحد لا يُحتمل حيث من لم يفكر بالهجرة مُطلقاً صارت حلاً وحيداً للخلاص.
كتب لوكريتيوس، الشاعر والفيلسوف الأبيقوري، في لحظة تجلٍ ما يلي "تحيا الحياة. الحياة، الحياة تموت". بقليل أو كثير من التصرف هل سنضيف على ما قاله الأبيقوري الحليم "يحيا السْاسة الكرد. الكرد يهاجرون"؟
بالعودة للعنوان، وبمقتضى النكتة الرائجة، أن ثلاثة أشخاص ذهبوا لملاقاة الله، الأول صيني، سأل الله متى ستصبح بشراً؟ قال الله بعد مائة عام، فأجهش الصيني في البكاء، ثم أردف قائلاً ليس على دوري سأموت ولن أرى ذلك. ثم سأل السويدي نفس السؤال، أجابه الله قبل أقل من مائة عام. أجهش هو أيضاً في البكاء وقال ليس على دوري. وحين جاء دور الشخص الثالث الشرق أوسطي وسأل بدوره ذات السؤال هنا أجهش الله بالبكاء ثم قال ليس على دوري.
يُمكن أن يكون الشخص الثالث كردياً أو عراقياً أو مصرياً أو ما شئتم من هذا الشرق القاتل والقتيل، الجلاد والضحية.

عماد أيو
ليفانت - عماد أيو

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!