-
على بايدن أن يدرك أن الظروف تغيرت
لم يكن الخلاف السعودي الأمريكي الأخير بشأن قرار منظمة "أوبك+" هو الأول بين الدولتين، لكنه نتاج خطاب بدأه بايدن منذ أن كان مرشحاً للرئاسة في بلاده، وأغلب التوقعات أنه لن يكون الأخير، لأنه ببساطة لا المملكة العربية السعودية هي نفسها قبل عشر سنوات مثلاً ولا أمريكا كما كانت في السابق، وليس خافياً على من يتابع المشهد العالمي أن الإدارة الأمريكية الحالية لم تستوعب السعودية الجديدة، ولم تدرك بعد الرؤية التي تحكم الحراك السعودي الآن.
تعتمد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية لعدة عقودٍ على فكرة أنها أقوى دولة في العالم ومن حقها أن تمارس ما تشاء من ضغوط سياسية على كثير من دول العالم لتحقيق مصالحها، والأمثلة كثيرة، ومع السعودية، ولأن كان أصل العلاقة هو التحالف، فقد مرت العلاقات بلحظات صعودٍ وهبوطٍ ومارست الولايات المتحدة ضغوطاً في فتراتٍ معينةٍ على السعودية.
التحالف بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية قديم وطويل ومتعدد الجوانب، ولكنه لم يمنع الاختلاف، حيث من المعلوم أن كل تحالف يحتاج إلى رعاية من الطرفين، حتى يبقى، صحيح أن ثمة تقاطعات استراتيجية، ومشتركات تاريخية كثيرة، لكن ذلك لا يمنع أية دولة من أن تنتصر لمصالحها الوطنية وتمضي بها بعيداً حتى وإن أدى ذلك إلى تصادم تكتيكي مع الحليف، فبكل تأكيد لن تأتي مصلحة الحليف قبل مصلحة الدولة نفسها والشاهد أن الولايات المتحدة (اليمينيين واليساريين) ابتعدت قليلاً في السنوات الأخيرة عن السعودية وحلفائها في المنطقة، وهو ابتعادٌ له بلا شك تبعاتٌ، حيث شهدت العلاقات في السنوات الأخيرة اضطراباً غير مبررٍ من قبل أمريكا وتعاوناً أقلّ، وبخاصة في التسليح العسكري صواريخ وطائرات واشتراطات وتعقيدات دفعت للبحث عن بدائل وهي كثيرة كماً ونوعاً، والتسليح لن يتوقف.
الغضب الأمريكي الأخير من المملكة العربية السعودية، بسبب قرار اتخذته بالإجماع الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة "أوبك+" وعددهم 23 دولة، قرروا، مجتمعين، في 5 تشرين أول/ أكتوبر، خفض معدلات إنتاج النفط مليوني برميل يومياً، ابتداء من أول تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، الولايات المتحدة الأمريكية من جانبها اعتبرت خفض إنتاج النفط في هذه الظرفية العالمية الموسومة بالتوتر من شأنه تعزيز إيرادات روسيا، وراح صناع السياسة في البيت الأبيض ينسجون سيناريوهات من شأنها إظهار حالة الترقب والتصيّد للسعودية، وكأنها هي وحدها من اتخذت القرار وتناست أمريكا أن المنظمة بها 22 عضواً آخرين غير السعودية، بل وذهب بعض الديمقراطيين إلى نظرية المؤامرة معتبرين أن السعودية خططت للقرار لاعتبارات سياسية محضة.
بقراءة اقتصادية دقيقة فإن دول منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، عندما اتخذت قرارها بالإجماع، كانت تنظر فقط إلى المصالح الوطنية لها، وكان قرارها نابعاً من قلق المنتجين للنفط من تداعيات انخفاض الطلب، وبناء على ذلك قدرت الدول الأعضاء في المنظمة وجود ضرورة للحد من تقلبات الأسواق والحفاظ على مستوى مستقر للأسعار في حدود 100 دولار للبرميل، وكان واضحاً أن دولاً عربية عديدة ستتحملُ تبعات الخفض، لكنها في المقابل ستستفيد من زيادة الأسعار، ولم تعر دول أوبك أي أهمية للحسابات الداخلية الأمريكية، أو لخدمة روسيا في حربها على أوكرانيا كما أشاعت أمريكا.
من يحلل الموقف الأمريكي من السعودية في هذا التوقيت يلاحظ أنه لا يمكن قراءته بمعزل عن الأوضاع الداخلية الأمريكية، خاصة فيما يرتبط بالانتخابات النصفية القادمة، التي من شأنها أن تغير التوازنات داخل مجلس الشيوخ ومجلس النواب لصالح الخصوم الجمهوريين في حال أتت رياح الانتخابات مغايرة لمزاج ساكن البيت الأبيض، لكن الأمر لا يطال فقط السلطة التشريعية، بل قد يحدد الهوية السياسية المحتملة للرئيس الأمريكي المقبل، وهي أوضاع حددت شكل الموقف الأمريكي من قرار أوبك واعتباره قراراً سعودياً.
خلال الأيام السابقة لصدور القرار، جربت الولايات المتحدة كل أدواتها لدفع أوبك إلى التراجع، لكن المنظمة مررت قرارها ولم تستجب للضغوط الأمريكية، واعتبر الرئيس بايدن ذلك بمثابة تحدٍّ شخصي له ولحكومته قبيل الانتخابات النصفية المقررة بعد أيام قليلة والتي ستمنح الناخبين فرصة لتقييم فترة حكم بايدن وستلقي نتائجها بظلالها على بقية عهدته الرئاسية وعلى الحياة السياسية الأمريكية بشكل عام في العامين المقبلين، مما جعل بايدن يعود لإعادة إنتاج خطابه القديم ضد السعودية، فالكل يذكر أن بايدن أثناء حملته الانتخابية لم يتوقف عن إرضاء الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي بزعامة برني ساندرز واستمر في خطاب عدائي تجاه السعودية وحتى عندما حاول أن يبدي غير ذلك وقرر تغيير مواقفه وإظهار ود مصطنع والتذكير بالعلاقات التاريخية بين السعودية وأمريكا وقام بزيارة للسعودية في يوليو الماضي، كان هدفه الأساسي هو مصلحة أمريكا أولاً وأخيراً ولم تقتنع الرياض ولا دول مجلس التعاون الخليجي المشاركة في قمّة جدة بابتسامات الود الصفراء التي جاء بها بايدن إلى جدة، فقد ذهب بايدن حاملاً معه سجلاً كبيراً من تناقضات السياسات الأمريكية في تعاملها مع الملفات التي كان حلفاؤها طرفاً فيها وتحديداً في السعودية والخليج، وأبرزها الملف الإيراني الذي كشف أن أمريكا لم تعد سوى مجرد حليف قديم متخاذل.
الغضب الأمريكي من السعودية هو في الحقيقة مفتعل لدواعٍ انتخابية ستزول بعد إقفال صناديق الاقتراع مساء يوم 8 نوفمبر المقبل، بعد أن يتم انتخاب أعضاء مجلس النواب (435 عضواً)، و34 عضواً من أصل 100 عضو في مجلس الشيوخ، وأكثر من ثلث حكام الولايات.. الديمقراطيون قلقون ويبحثون بشكل أو بآخر عن الشعبوية، ووجدوها فرصة في الهجوم على السعودية، ولنتأكد أن الغضب الأمريكي "ديمقراطي" بالأساس يكفي أن نورد مواقف بعض النواب الجمهوريين، الذين يرون الحدث من زاوية مختلفة عن الديمقراطيين، فعلى سبيل المثال، النائب الجمهوري دان كرينشو أكد أن إدارة بايدن تتعاون مع إيران من أجل إعادة اتفاق نووي سخيف، ماذا كنا نتوقع؟ فالعلاقة مع السعودية علاقة سياسية واقعية قائمة على المصالح المشتركة، إذا لم تبدِ تعاوناً مع الحليف فيما يخصه فتوقع أن يتركك وهو الآن يفعل ذلك بالفعل.
خروج بايدن وحوله أصوات ديمقراطية من الكونغرس وإطلاقهم التصريحات العنترية والوعيد للسعودية والتهديد بـ"العواقب"؛ ليس إلا مناورة انتخابية بدائية لا تقنع العالم ولا تقنع الأمريكيين أنفسهم الذين سيذهبون لصناديق الاقتراع.
الرئيس بايدن، ينبغي أن يدرك أولاً أن الحملات الانتخابية تتطلب جهوداً على أرض الواقع وليس شعارات وأن تبرير الفشل في السياسات الاقتصادية بتحميله للآخرين لن يفلح في جلب أصوات في الانتخابات
أخيراً.. على الرئيس بايدن أن يستوعب ما حدث في العالم من تغيير وأن يتعامل بجدية مع مستجدات القوى وظروف الدول، فأمريكا التي كانت بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي؛ ليست كأمريكا الآن، وتأثير الدور الأمريكي في العالم لم يعد كما كان، ومن ثم لم يعد لائقاً تهديد الحلفاء بـالعواقب، لتبرير فشل ما أو لحصد تأييد زائف قبيل استحقاق انتخابي.
ليفانت - حسام فاروق
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!