الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
صناعة المرتزقة السوريين
صفوان داؤد

أدّت الحرب السورية وزيادة نفوذ الميليشيات العسكرية الموازية للدولة وانهيار أو ضعف مؤسساتها، وتهجير وهجرة ملايين السوريين من أصحاب الكفاءات العلمية والأكاديمية، ثم جائحة كوفيد-19، إلى تعمّق الأزمات وتضرر كبير في البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع السوري، وانعكس ذلك على ارتفاع إحباط الناس وانغلاق فرص الحياة الكريمة أمامهم والهروب إلى الخيارات الأقصوية العدمية. 


وتشير معطيات دولية صادرة عن مؤسسات منظمة الأمم المتّحدة المختلفة وتقارير متتابعة من صندوق النقد الدولي ومراكز بحثية رفيعة، أنّ سوريا تصدّرت قائمة الدول الأكثر فقراً بالعالم، بنسبة بلغت 82.5 %، وارتفعت نسبة البطالة فيها إلى 78 %، وثمة نحو تسعة ملايين سوري عاطل عن العمل، ودخل أكثر من نصف المجتمع السوري نطاق العوز والحاجة المباشرة وحاجته إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية المختلفة، وبينما ازدادت الأسعار بشكل عام بين 2011 و2019 نحو 14 ضعفاً، فإنّ ازدياد الأسعار عاد وارتفع بشكل جنوني، منذ مايو/ أيار الماضي، بنسبة 130 %، بحسب برنامج الغذاء العالمي.


إنّ العنف الناتج عن الحرب السورية الذي أصبح أمراً معتاداً ومألوفاً من سياق الحياة، وأصبحت ضحايا الحرب السورية أرقاماً إحصائيّة يتم نسيانها في اليوم التالي. لقد رافق العنف الدمار، وفتح تدمير البنية التحتيّة وانهيار الدورة الاقتصادية وانتشار الفقر المدقع، المجال للقوى المُحتَلّة لسوريا، إضافة للنظام السوري، أن يستثمر في الإنسان السوري المقهور أو المهدور وتحويله إلى آلة للقتل، أو بتعبير أكثر لطافة إلى “مرتزق” يقدّم خدماته وفق الطلب، وإن كانت الحركات الأصولية الإسلامية، التي انفجرت، كالقنبلة العنقودية، على كامل أرجاء سوريا تعبيراً أيديولوجياً نكوصياً في مواجهة عقود من التهميش والإفقار واللاعدالة، فإنّ هيمنة السلطة الأسدية كانت لديمومتها، الأكثر تأثيراً ومسؤولية عن إغراق المجتمع السوري في الهمجية، وكانت ممارساتها في التوحش للحفاظ على السلطة كفيلةً بأن تحوّل البلاد إلى أكبر منجم للمرتزقة في العالم، منجم يحقق عائدات اقتصادية وأمنية للنظام ولحلفائه وخصومه على حدّ سواء، فالمرتزق بالنسبة لهم مُنتَج فعّال ورخيص وقابل للإذعان. 


لقد ارتبطت الذهنيّة المتخلفة بديمومة القهر والتسلّط، كما يقول مصطفى حجازي، في كتابه “الإنسان المقهور”، وعلى ذلك نستطيع أن نفهم أنّ هناك إرادة سياسية وثقافية هائلة لرأس النظام في الضعط على الشرائح الأوسع من المجتمع السوري كي لا تجتاز خطوط الفقر والتخلّف المرسومة لها تمهيداً لتحويل بيئتهم إلى مفرخة للمرتزقة والتشبيح، إنّ كل أوليات الرضوخ والقمع والتسلّط التي مارسها النظام بأساليبه الترغيبية والترهيبية قد زادت من حدّة التوتر والعدوانية الناشئة عن القهر، لا يوجد إنسان على وجه الأرض يمكنه احتمال الاضطهاد والتبخيس والمهانة بشكل مستمر كما كان حاصلاً في سوريا الأسد. 


وعندما تصل العدوانية إلى مرحلة الاضطهاد، فإنّها تتحوّل إما ضد الذات، وهذا يُفسِّر ازدياد حالات الانتحار في سوريا، أو يتم إسقاطها على الآخرين، وهنا ينشأ الدافع الذرائعي لقبول فعل الارتزاق، يصبح حاجة نفسية مُلحّة لمجابهة الخواء أو العجز الوجودي الذي خلقه القمع والتسلّط طويل الأمد. وخلال وضعية الارتزاق، يتحوّل المرتزق إلى شخص فاقد للإنسانية، لأنّه بكل بساطة لا يرى من يحاربهم بشر، وإنما أشياء يجب القضاء عليها، إنّ فقدان الإنسانيّة لدى المرتزق يجعلنا نفهم السهولة المُلفِتة التي يقبل فيها قتل الآخرين، لا بل وأحياناً التشفّي بها.


خلال السنوات الماضية، تطوّرت ظاهرة استخدام المرتزقة في حروب الشرق الأوسط، ووجدنا مقاتلين سوريين بمهنة مرتزق تحت الطلب في كل الحروب. في ليبيا وعلى طرفي الصراع؛ مرتزقة سوريون مجنّدون من قبل أنقرة لدعم حكومة الوفاق الوطنية، يقاتلون مرتزقة سوريين مجندين من قبل موسكو لدعم قوات خليفة حفتر. الآن يتكرر المشهد في الصراع الأذري الأرمني؛ المرتزقة السوريون يقاتلون بعضهم على طرفي خط النار، أيُّ حضيض هذا الذي وصل إليه السوري، بدأ كل هذا نهاية عام 2011، عندما اختار النظام السوري عسكرة الثورة السورية بدلاً من انتهاج الحل السياسي، لقد انجرفت سوريا في أتون الحرب، ولم يتردّد أي طرف من الأطراف استخدام كل وسائل العنف المتاحة لديه، ولم يكن استخدام السلاح الكيميائي أشدّها قسوة، بل كان استخدام القمع والإذلال وتهميش الشباب السوري، لقد خلقت الرمزيات الجمعية والخطاب الثقافي والإعلامي وحتى التربوي للسلطة المركزية في دمشق علّية عنفية قهرية، وأخرى مضادة لها من خصومه.


تطوّر الوضع بشكل أكثر خطورة، مع قبول النظام السوري خلال الحرب السورية تسليح جماعات (ميليشيات) خارج الجيش النظامي، كانت المنهل الأساسي لاستثمارها لاحقاً من قبل الأطراف المؤثرة في الصراع السوري. استثمار فرد مقهور وعنيف وجاهز ليقاتل ويقتل؛ عمل النظام على صناعته، ثم يأتي هكذا وبكل بساطة ليشغله الإيراني بجانب مرتزقة مذهبيين من باكستان والعراق وأفغانستان، ويشغله الروسي بجانب مرتزقة من وسط آسيا. غير أنّ أنقرة في عهد حزب العدالة والتنمية الحاكم كانت الأكثر دينامية وجرأة في استخدام هذا النمط من التجنيد، ونجاحها لوجستياً وعقائدياً في استثمار المرتزقة السوريين لأهدافها في المنطقة، لقد ولّد هذا النمط غير الأخلاقي المتنامي في استخدام هؤلاء المقاتلين غير الشرعيين قلقاً دولياً واسعاً عن انتهاكات حقوق الإنسان التي يمكن أن تتحملها الدول الراعية لهم، وفي مقدمتهم تركيا. 


وكانت قد أدانت الأمم المتّحدة، سابقاً، على لسان مبعوثها الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، أنقرة، عقب كشف «المرصد السوري» لحقوق الإنسان نقل السلطات التركية لمقاتلين سوريين، بينهم أطفال، قسراً للقتال في ليبيا، وقد تكرر هذا المشهد مع تجنيد انقرة مقاتلين سوريين ونقلهم الى كارباخ، بؤرة الصراع الأذري الأرمني الدائر حالياً. وبحسب «الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم»، في المادة الخامسة منها: “لا يجوز للدول الأطراف تجنيد المرتزقة أو استخدامهم أو تمويلهم أو تدريبهم، وعليها أن تقوم، وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية، بحظر هذه الأنشطة”.


كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراتها 49/150 عام 1994، و51/83 عام 1996، و52/112 عام 1997، والتي تدين وتجرّم تجنيد ونقل واستخدام المرتزقة في الصراعات العسكرية، ومع ذلك الحقيقة تبقى أنّه وقبل إدانة كل من روسيا وتركيا وإيران على تشغيل المرتزقة السوريين، يجب على المجتمع الدولي إدانة النظام السوري ومعالجة أسباب نشوء هذه الظاهرة في سوريا، وتلك الوفرة في التجنيد من هذا المكان من العالم، عنف السوري هو منعكس لبنية سلطة نشأت وبقيت قائمة بقوة العنف. 


آلات بشرية رخيصة الثمن جاهزة للقتل بحسب الطلب هي حصيلة 50 عاماً من حكم آل الاسد في صناعة الإنسان المهدور بالقمع والتسلّط والجهل. في الأفق القريب وضمن المُتاح، لا يبدو الحل في وقف تصدير المرتزقة سوى عبر دعم الحل السلمي في سوريا استناداً الى قرار مجلس الأمن 2254 الصادر عن الأمم المتحدة عام 2015، والذي يعتبر المرجعية الأكثر قبولاً لدى جميع الأطراف الداعمة والمنخرطة في الصراع السوري، باستثناء طبعاً النظام السوري نفسه. 


ليفانت -صفوان داؤد


 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!