الوضع المظلم
الخميس ٠٢ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
شطائر مرتديلا.. ذاكرة من ثانوية
شطائر مرتديلا.. ذاكرة من ثانوية "زكي الأرسوزي" للبنات

اعتدنا أنا وصديقاتي تناولَ سندويتشات المرتديلا في الاستراحة المدرسية بشكلٍ دوري، وصارت جزءاً من يومياتنا، وكنتُ حينذاك في ثانوية (زكي الأرسوزي) للبنات. الشطائرُ المحشوة بشرحات رفيعة جداً من مرتديلا (هنا) وقطعتين من المخلل الطري، كانت مصدراً لإشباع جوعنا وسعادتنا في آن، نجتمعُ خلال دقائق الاستراحة القليلة لنتبادلَ الأحاديث والأسرار فتصبح شطيرة المرتديلا الزهيدة التي يغلب على مذاقها طعم الخبز جزءاً من طيابة الجلسات وحلاوتها، بعض الفتيات كن غير مكترثات بنوع الطعام المتاح في بوفيه المدرسة كونهن من عائلات مقتدرة، يُشبعن لذاتهن في المـأكل والمشرب في بيوتهن، وينظرن للأقلية الفقيرة بعين الازدراء تارة والزمالة أخرى.




المدرسة عُرفت بمستواها الرفيع وذاع صيت بنات الضباط والمسؤولين والتجار فيها، لكن ذلك لم ينفِ عنها سمة التنوع والتلوّن، فعلى الرغم من تصميم إدارة المدرسة جعلها حكراً على بنات الفئات الواصلة والمقتدرة، إلا أن بعض الفتيات ومع أنهن لا ينتمين للطبقات آنفة الذكر، إلا أنهن استطعن الوفود إليها لما حققنه من تفوّق في المرحلة الإعدادية، وهو شرط رئيس من شروط قبول التسجيل في (زكي الأرسوزي) دوناً عن الشرط الأول وهو أن تكون الفتاة ابنة ضابط مهم أو تاجر معروف.




أما مديرة المدرسة فكانت سيدة جميلة شكلها يوحي بأنها من عائلة برجوازية عريقة، ترتدي دائماً التنانير القصيرة والمعاطف الفخمة وتملك سيارة فارهة. كانت تجتمع بالطالبات في الباحة بين الفينة والأخرى، تلقي الخُطب حول التعليم بشكل عام، دون الدخول في تفاصيل العملية التعليمية، سيرها، أو أوضاع الطالبات ومشكلاتهن الكثيرة مع المدرسات اللواتي كن خليطاً غير متجانس.




فالمدرسة ضمّت كادراً من المعلمين والمعلمات يصعبُ معه تحديد هويتها، بعض المدرسات كن قبيسيات، وبعضهن الآخر من عالم الحداثة المصطنعة، والموضة الخليعة، وكل واحدة منهن تحاول توجيه الفتيات إلى طريقتها وعقيدتها، دون التفريط، نوع من التأثير الناعم، فالمدرسات يعرفن طبيعة الفتيات والطبقات اللائي يتحدّرن منها، لذا يتعاملن معهن بحذر، ومع ذلك كانت تنشب بعض المشكلات وخاصة مع الفتيات المتفوقات اللواتي التحقن بالمدرسة دون وساطات وأجبرت عليهن كونها تدّعي النموذجية، هؤلاء كن بلا ظهر، وأصبحن معروفات، لذا يُسمح للمدرسين والمدرسات بالتطاول عليهن، نوع من التعويض (وفش الخلق) الذي ينشأ لديهم من احتواء بنات الضباط وتقبّل تصرفات غير لائقة تصدر بحقهم منهن.




وصولي إلى (زكي الأرسوزي) كان مرتبطاً بمعدل جيد أحرزته في المرحلة الإعدادية، وإصراري على التسجيل فيها لما شاع عنها أنها مدرسة المتفوقات تدفع بالطالبات إلى الأمام، بفضل كوادرها التعليمية المتميزة، لكن خلال رحلة ثلاث سنوات أمضيتها في غرفها الصفية، مجالسها وممراتها، عرفتُ أن طاقمها التدريسي والإداري أقل من متواضع، وقسم كبير منهم اختير بذات الطريقة التي جرى على أساسها اصطفاء الطالبات.




ترعى المدرسة حالة من التفرقة الاجتماعية والطبقية، وتخلق لدى الطالبات حالة من الفصام والازدواجية لدرجة أن قسم من الطالبات اللواتي ينتمين لنفس الطبقة كانت تنشب بينهن نزاعات وخصومات لا أسباب جوهرية وراءها، سوى التمييز التي تتبعه الإدارة على أساس العائلة التي تنتمي لها الفتاة، على سبيل المثال كان يُسمح للطالبات (المدعومات) بوضع المكياج في الصفوف، العدسات اللاصقة، وحتى المخالفة في اللباس وتغضّ الموجهة الطرف عنهن، أما الطالبات الأخريات، فتُنزل بهن أشد أنواع العقوبات والتي كانت تتراوح بين الإهانة الكلامية، إلى الطرد من الصف أو حتى الفصل من المدرسة.




وعلى الرغم انتهاج المدرسة كلّ السبل لتكريس العدائية والكره بين الفتيات من شتى الفئات، إلا أن حالة من الجمال وطراوة الفتوة لم يستطع كادر المدرسة السيطرة عليها، فنشأت بين بعض الطالبات المتنوعات الخلفيات علاقات وطيدة، هذا الشذوذ كان يُقلق الإدارة، فتحاول دائماً زرع الفتن بينهن، تنجح تارة وتفشل أخريات، غير أن الجهد المبذول في هذا المجال كان يفوق محاولات تطوير العملية التعليمية أو حل المشكلات الرئيسية التي تواجه الطالبات.




المدرسة سُميت بهذا الاسم كناية بالفيلسوف والمفكر السوري زكي الأرسوزي، لكن لم يُسمح ضمن حدودها بتداول الفكر أو الحوار كما جلّ المدارس السورية، كذلك ابتعدت عن تضمين قواعد اللياقة والبريستيج في التعاملات خوفاً من انزعاج بعض الفتيات الريفيات (الواصلات). كلّ ما كان مباح به داخلها هو افتعال الضجة من قبل بعض الطالبات لإثارة الخوف الدائم في نفوس الأخريات، وليصبح الشكل العام للمدرسة يشابه الخط المتبع في كلّ المؤسسات السورية. بعض الطالبات المتفوقات حقاً كن فقيرات لدرجة يصعب معها عليهن شراء الأطعمة من المدرسة، هؤلاء كن يحضرن معهن قوتهن من المنزل، فيما تدفع بعض الفتيات المقتدرات عن صديقاتهن ثمن شطيرة المرتديلا.


مدونة ليفانت


كاتبة وصحفية سورية

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!