الوضع المظلم
السبت ٢٧ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
سينما
ماجد حبو
لم تتح لي مشاهدة فيلم "المخدوعون" إلا بعد عدة سنوات من حضوره في سينما "أبو وحيد" بعنوان "رجال في الشمس" للكاتب غسان كنفاني، وقراءة الرواية كنص أصلي كذلك.

أن تشاهد فيلماً أو تحضر فيلماً، لم يكن ذات الحال عند "أبو وحيد" في سينماه الأسبوعية كل يوم جمعة. لم نكن نعرف له اسماً غير "أبو وحيد"، الطالب الجامعي الإدلبي المربوع بشعيرات رأسه المتفرقة وصلعته الرهبانية المبكرة. هكذا عرفناه، بل هكذا عرفه كل من عاشره: يعشق السينما، النساء عن بعد، جسر الشغور، التدخين، وفن الحكاية.

عندما ضمّنا المهجع التاسع ببلاطه العاري وجدرانة الصماء، استند أبو وحيد على البلاطة المتعامدة مع الجدار ببيجامته المهلهلة وشعر صدره الكثيف والذي يفوق شعر رأسه الضخم، ثم قال بهدوء: سأحكي لكم حكاية. كانت شفتاه تعيد رسم وتشكيل الأحرف بغير ما ألفناه، التلمظ، مد الأصوات بعمقها أو سطحيتها، التنغم والسكون، الصمت بين الكلمات والشهقات لإكمال المعاني مما لا تحوطه الكلمات.

أن يضم أبو وحيد شفتيه مع حرف الميم، فتلك متعة امتلاك وتمنطق كمن يبتلع قطعة حلوى، أما اللام فكانت أجمل الحروف لديه "يغمض عينيه ويسرح في سهول الغاب.. ولا ينتهي الحرف لديه"، وكذا الحال مع "السين أو الراء والأهم النون". أبو وحيد له لغة وخيال صادم ومتجلٍّ بطريقة مبتكرة ومدهشة، سلسة ومعدية آسرة ومطمئنة.

عشت عوالم مبتكرة ينسبها أبو وحيد لشخصيات نعرفعها ونعيشها بذائقة أخرى وطعم وخيال مختلف لذيذ ومشتهٍ. لم يدر بخلدنا، ونحن المعتقلين الجدد الفاتحين مسيرة طويلة من تاريخ الاعتقال السياسي في سوريا "الثمانينات" بأن السنين ستمضي بنا طويلاً، بل وحتى عند المشرفين على الملف الأمني بضباطه وعناصره في سوريا آنذاك.

سأحكي لكم عن فيلم شاهدته.. هكذا بدأت الحكاية. سرديته، كلماته، حركة أصابعه، وهي تبعث بشعيرات رأسه، تربعه.. كانت تنقل لنا الموسيقى التصويرية للفيلم كما الإضاءة، كما الحوار، كما الهمس والصمت بين المشاهد. كم من الأفلام التي حضرناها في سينما "أبو وحيد"، لنعود ونكتشف بعد زمن طويل بأنها لم تكن إلا من مخيلته وصناعته.

بعد أربعة عشر عاماً وجدت فيلم "المخدوعون – لتوفيق صالح" بممثليه البارعين: عبد الرحمن آل رشي، بسام لطفي، وثراء دبسي، أقل دفئاً ومخيلة مما حضرته في سينما "أبو وحيد". كما اكتشفت بأن الكلمات التي أضافها على النسخة الأصلية لرواية "رجال في الشمس – لغسان كنفاني" جعلت نسخة "أبو وحيد" أكثر إيلاماً ووثوقية، وهو يقول: لماذا لم تدقوا جدران الخزان بقوة؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟

ماجد حبو

ليفانت - ماجد حبو

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!