الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
سوريا حافة الهاوية والواقعيّة السياسيّة
هوازن خداج

أفرز الصراع الطويل في سوريا وعليها، وطريقة إدارته عبر منهج “الغاية تبرر الوسيلة” التي تعادل التجرّد من القيم والمبادئ، جملة ملفات صعبة الحلّ على كافة الأصعدة. فالحروب إن وصلت مراحلها النهائيّة يصير “اللعب” أكثر شراسة، فهي تتطلّب التشبث بحافة الهاوية وتهيئة الأجواء لاستكمال إدارة “الواقعيّة السياسيّة” الذي تحلّت به كافة الأطراف الخارجيّة وتحركها في نطاق تحقيق مصلحتها أولاً وأخيراً دون حساب للتدخل الإنساني، وكذلك الأطراف السورية التي تندرج تحت مسمى “المعارضة الرسمية” بافتراضها أنّ الغاية الأساسيّة للفعل السياسي هي الوصول إلى السلطة، فالواقعيّة السياسيّة يتلخّص جوهرها في المبدأ السياسي بأنّ “من يملك القوة ( السلطة) يملك الحق”.


الواقعية السياسيّة التي خضعت لتطوّرات مختلفة بمفهومها، وأضفى عليها الفلاسفة مثل توماس هوبز وسبينوزا وجان جاك روسو بعض التفاصيل في محاولة تهذيب (لا أخلاقيتها)، فاعتبرها “هوبز” مشتقّة من الحالة الطبيعية، وبأنّ العلاقات بين الكيانات السياسية النفعية هي بالضرورة لاأخلاقيّة، وأنه لا يمكن أن توجد عدالة أو مبادئ أخلاقية، دون وجود حكومة رئيسة لتشرِّع قواعد السلوك، “حيثما لا توجد سلطة مشتركة، لا يوجد قانون؛ وحيثما لا يوجد قانون، لا توجد عدالة”، فالخروج من حالة (الواحد ضد الجميع)، بإمساك السلطة للقانون وتحقيق العدالة والأمان، لا يعني تعديلاً للاأخلاقية السياسية، بل فرض التحكم من قبل الأقوى، وتحديد القوة بالسلطة التي سمحت بوجود الأنظمة الاستبدادية الشمولية في حالة السلم. أما في حالة الحرب والخروج من (حرب الجميع ضد الجميع) فإنّها سايرت الواقعيّة السياسيّة باعتبار أساس التدخل للحفاظ على المصالح والقوّة، هي المحرّك.


فقرارات الحرب والسلام لا تّتخذ وفقاً لأهواء صُنّاع القرار وحسب، إنما تّتخذ بعد أن يجري كل طرف من الأطراف حساباته الدقيقة، ويحسب توازن القوى، وماذا يمكن لهذا الطرف أن يكسب في نهاية الحرب.


وفي سوريا، رغم أنّ الحرب لم تصل خواتيمها الميدانيّة ولم تلغِ إمكانيّة تفجّر الأوضاع بأكثر من مكان، تبقى مسألة الحفاظ على المكتسبات بالنسبة للمتدخلين الخارجيين (إيران، روسيا، تركيا، أمريكا) هي الأساس، فلكل طرف منخرط في سوريا أهداف واضحة وحاسمة، تتعارض فيما بينها في عمومية النظرة إلى سوريا ككل، والتي يتداخل فيها الماضي والحاضر، سوريا هي الامتداد الديني للخامنئي وطريق الحرير الخاص بإيران، وهي المياه الدافئة للقيصر الروسي واستعادة لدور روسيا العالمي، وهي العمق الديني للخليفة التركي والأمن القومي للسلطنة، وهي نقطة ارتكاز أمريكية لحصر اللاعبين وضبط ميزان الشرق الأوسط.


التشابكات في كليّة النظرة إلى سوريا ككل، سهّلتها عملية الفرز الجغرافي، الذي أنتجته روسيا بوصفها المتعهد الأكبر لإدارة الصراع، وعمليّة تحويل القوى الإقليمية الفاعلة، تركيا وإيران، إلى دول شريكة لها في إدارة الحرب وإدارة الحلّ، والتي جرى من خلالها تخفيف التقاطعات باعتبار لكل طرف منطقته شبه الواضحة دون ترسيم الحدود بشكل نهائي، لتبقى المشكلة في استدامة إدراة هذه الأطراف لمناطقها والاستقرار فيها، والاستفادة حتّى النهاية من الوضع السوري ككل.


إلا أنّ دخول الصراع المنطقة الأخيرة في خفض التصعيد (إدلب) بإشكالاتها المختلفة وتشابكاتها الناتجة عن الحسابات الدقيقة لتوازن القوى والمكاسب والمصالح، جعل إعادة ترتيب التحالفات على ضوء حسابات الربح والخسارة (المادية والمعنوية) وإعادة تركيز التحالفات ضمن مجال التنافسات والاحتكاك، لكافة الأطراف هي الأساس، والتي تبدو من الناحية الظاهرية على الأقل، أنّ روسيا أكثر ميلاً نحو تركيا منها نحو إيران، فهي لا تمانع الضربات الإسرائيليّة الموجعة التي يتلقّاها الشريك الإيراني، وتبدو أقل اهتماماً بمصير الأسد، بل وتدير حوله حملة شرسة في إظهار ضعف إدارته لسوريا ولمناطق المصالحات، وتفتح ملفات الفساد الخاص “بملكيته” للدولة السورية، في وقت ترزح فيه سوريا تحت حدّة عقوبات (سيزر) الاقتصادية وغير المسبوقة بقسوتها وانعكاسها المباشر على السوريين، فالعقوبات لم تسقط أنظمة، وكذلك في وقت جائحة كورورنا، التي اعتبرتها روسيا حالة طارئة لرفع العقوبات الدولية ضدّ النظام في اجتماع أستانا الافتراضي الذي عقده كبار الدبلوماسيين من روسيا وتركيا وإيران في 22 نيسان/أبريل.


لقد شكّل اختيار الوقت لفضائح النظام من قبل الجانب الروسي، وبثّ الشريط المسجّل “لرامي مخلوف” سلسلة من التحليلات السياسية بعضها مبني على الرغبة باقتراب نهاية الأسد وتخلّي روسيا عنه، وكأن روسيا أُصيبت بصحوة متأخرة في اكتشاف ضعف وفساد النظام، رغم أن ما دفعها للتدخل في سوريا منذ البداية كان مبنياً على معادلة واضحة في حدودها: ثورة شعب ضدّ الاستبداد والفساد المستشري، تواجه بتصعيد عنفي، يرافقه ضعف في إدارة الواقع السوري الميداني. وبعضها الآخر نظر إلى حملة الفضائح الحالية باعتبارها نتيجة التقاطعات والمنافسة بينها وبين إيران التي تريد عزلها عن الهيمنة على القرار السياسي في دمشق وإيقاف مشروعها التمددي المستقبلي، وهو ليس خافياً على روسيا منذ البداية. ولكنها في منظور الواقعية السياسية الروسية وحساب مصالحها فإن هذه الحملة على شراستها، قد لا تتجاوز خدمة مصالحها في تقليم أظافره ورسم حدود طموحاته الاستراتيجية، كما فعلت أمريكا بعد حرب الخليج بالإبقاء على صدام حسين في موقعه ليحكم عراقاً ضعيفاً رازحاً تحت عقوبات اقتصادية، هذا إن لم يحدث ما يبدّلها من داخل سوريا وليس من خارجها.


في واقع الأمر، إنّ الوضع في سوريا أكثر تعقيداً من القراءة الظاهرية نتيجة الاختلاطات والتقاطعات والأزمات الكبيرة فيه، ولكنه منذ البداية، تشكّل على اعتماد الأطراف كلها (خارجية وداخلية) مسألة الواقعيّة السياسيّة، القائمة على معرفة الدول الخارجية كلها، بأن النظام الحاكم هو نظام عسكري ديكتاتوري شمولي وفاسد، ولكنه أهون الشرور مقارنة بالعسكرة والأسلمة. ثم جعلته هذه الواقعية جزءاً من العملية السياسية


بعد أن تلاشى ما يمكن تسميته حلّ جذري للمأساة السورية والذي أوغل فيه الجميع تدويراً وتشتيتاً ليتقلّص في نهايته نحو صياغة دستور توافقي وحكومة انتقالية، وبعد أن أثبتت البدائل المعارضة للنظام أنّها تشكيلات متفرقة لا تتبع جسماً سياسياً واحداً يمكن الوثوق به، أو ترويضه لاحقاً، كما أنّها لم تثبت صلاحيتها في الاعتراف بقواعد اللعبة السياسية والتوازنات لتأخذ مكانها في مصفوفة الصراع الميداني والسياسي. وفي المعيار السياسي كسب النظام نتيجة التزامه بقواعد اللعبة الدولية والتي مازالت تعتمد ترويضه بدل إسقاطه، فهو حتى اللحظة رغم مآسي الداخل ورائحة الفساد التي تدعو للغثيان، ما زال حاجة روسيّة وإيرانيّة وإسرائيليّة، كما أنّه حاجة أمريكية، ما لم يتمّ تعديل الميزان واتخاذ المعارضين خطوات جديّة باتجاه وضع حلول للأزمات السورية المكدّسة والصعبة.


إدارة الوضع السوري بعمومه الذي بُني على الواقعيّة السياسية، لم يشهد تغيّراً طيلة السنوات الماضية، فالواقعية السياسية “اللاأخلاقية” لقوى التدخل الخارجي، قابلها “لاأخلاقية” لمن نصّبوا أنفسهم وكلاء عن السوريين ككل باعتبارهم قوى معارضة، فلم ينجزوا طيلة السنوات الماضية أي خطة عمل ممكنة تؤهلهم لحكم بلد أو إدارته، ولم يروا بالسياسة حرية أو مساواة.  


على حافة الهاوية، الواقعية السياسية تجعل المتدخلين الخارجيين وعلى رأسهم روسيا، يتّجهون نحو استكمال تفريغ نظام الحكم الحالي من أي صلاحية ممكنة حتى لا يُعاد ترشيحه، وهي نفسها ستجعل من أي رئيس قادم لحكم “الجثّة السوريّة” وإعادة إحيائها، بحاجة لكافة الأطراف الخارجية كي يثبّت أقدامه في الحكم ويستطيع إدارة الملفات، وأنّ وقتاً طويلاً سيمرّ قبل أن يتقرّر مستقبل الأرض السورية، ويتم  ضبط التوازنات لما بعد الأسد.


ليفانت – هوازن خداج 


 

العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!