الوضع المظلم
الجمعة ١٠ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
سؤال المصير.. السؤال الأزلي
هدى سليم المحيثاوي

سؤال المصير (في اللغة: ما ينتهي إليه الأمر)، يطرحه المفكر برهان غليون في كتابٍ صدر حديثاً عن "المركز العربي للدراسات والأبحاث-الدوحة يحمل العنوان نفسه. وإن كان هدفُ د. غليون تتبعَ مصير العرب خلال القرنين الأخيرين، وبطبيعة الحال وضع السلطنة العثمانية التي بقي مصيرُ العرب مرتبطاً بمصيرها لمدة أربعة قرون، إلاَ أنَ هذا السؤال عن المصير أو المآل، هو سؤالٌ أزليٌ ولازم، أكان للأفراد أم الجماعات أم الدول، فما هو المصير المُنتَظر لنا كسوريين وعرب عموماً، وبماذا يتحدد؟

نبدأ بالعمق التاريخي الذي انطلق منه د. غليون في بحثه، وهي الفترة التي وَضحتْ واتسعت فيها الفجوة بين الشرق والغرب، إلاَ أنَ جذور وعوامل هذا الفارق بدأت بالتشكل في مرحلةٍ أسبق، عندما شرع الغرب في العمل على أسباب قوته وترسيخها منذ العام 1500، لنصلَ إلى الصورة التي تجلت لنا منذ نحو قرنين وهي مرحلة الهيمنة شبه الكاملة.

هذه العوامل، والتي وإن بدت لنا في الوقت الحالي تفوقاً في الجانب العسكري والسلاح بكافة أنواعه وأشكاله، إلاَ أنها لم تبدأ بها.

يُعيدنا الكاتب نيال فرغسون: بروفسور التاريخ في جامعة هارفارد، إلى العام 1500، محدداً ستة عوامل، يعتبرها الأساس والمُنطلق لبناء الدول الغربية، ويُجملها فرغسون بـ:

المنافسة، العلوم، حقوق المُلكية، الطب، المجتمع الاستهلاكي، وأخيراً أخلاقيات العمل.

أمضى الغرب القرون الخامس والسادس والسابع عشر في ترسيخ وتدعيم قواعدَ دوله، فبينما كان البرتغاليون يسعون لاكتشاف طريقٍ جديد للسيطرة على تجارة التوابل (ذهبُ ذلك العصر) بغية التفوق على منافسيهم من تجار البندقية وإسطنبول، كانت الإمبراطورية الصينية (التي نجحت في انتزاع لقب أقوى الامبراطوريات في وقتها) ومن خلال حكم يونغ له (1402-1421) تسعى لفرض الجزية ونيل اعتراف الشعوب الأخرى بها، من خلال إرسال أسطولٍ تألف من 300 سفينة و28 ألف بحار بقيادة الأدميرال الشهير شينغ خه الذي طاف بأسطوله سواحل آسيا وإفريقيا ووصل به إلى سواحل ظفار.

ركز العثمانيون في القرون ذاتها على الفتوحات وانتزاع الاعتراف بخلافتهم بحكم القوة العسكرية، واعتماداً على الأفكار الدينية، التي كانت مُحدِداً لما يمكن أن يسود من ثقافة أو علوم، وتنحية ما يتعارض مع الدين من وجهة نظرهم، ليستفيقوا في القرن الثامن عشر على تفوقٍ غربي ساحق كانوا يجهلون أسبابه، وكان هذا التفوق هو مُحرضهم لتمثل بعض مظاهر الحداثة والتي نصح بها مبعوثيهم إلى المدن الغربية، فقط من أجل علاج مشكلة انحسار سيطرتهم لصالح القوى المسيحية الغربية، فأتت تلك المظاهر شكلية ولم تطل النظام العثماني العام، إذ ساد مبدأ أنَ التنويه بالتفوق الغربي وعوامله شيء وإجراء الإصلاحات شيءٌ آخر، وقد كلفَتْ مطالبة أحمد رسمي أفندي في العام 1757 بإجراء إصلاحاتٍ عامة على النظام العثماني حرمانه من منصب الوزير الأول، على إثر التقارير التي بعث بها من فيينا، المدينة التي كانت قبل أقل من مئة عام محاصرة من قبل قوات السلطنة بقيادة كارا مصطفى.

في اقتباسٍ من الكتاب يقول د. غليون: "لم يطرح محمد علي ولا السلطان سليم الثاني ولا محمود الثاني على أنفسهم سؤال فيما إذا كان تحديث الجيش ومن ثم الإدارة المدنية والدولة يتناقض مع الدين، وإنما اعتَبَر الجميع أنَ ما ينقذ الدولة من الضعف ويوقف الهزائم العسكرية والتدهور المالي والاقتصادي هو أيضاً في مصلحة الدين جماعةً وعقيدة".

في العام 1580، أي قبل قرنين من حركة إنهاء الجيش الإنكشاري وتشكيل جيش حديث التي ساقها د. غليون كمثالٍ على الانفتاح العثماني على مظاهر الحداثة، تم هدمُ المرصدِ الفلكي الذي أنشأه السوري المولِد (1521) تقي الدين، والذي ضاهى المرصدَ الأكثر شهرةً آنذاك الذي أقامه داين تايكو براهي في يورانيبورغ، وسجل من خلاله أول مشاهدةٍ أوروبيةٍ للنجم المتفجر، وكانت واحدة من أهم الاكتشافات العلمية التي حصلت ما بين 1530-1789، تلك الإنجازات التي سخرها الغرب في تحقيق التفوق التقني والعسكري، أمَا سبب الهدم فكان أنَ القاضي زاده وهو أرفع رجل دينٍ حينها، أقنع السلطان العثماني (مراد الثالث) بأنَ تَفحُصَ تقي الدين لأسرار السماوات، كان عملاً يدل على الكفر، وهذا يُحيلنا إلى تساؤلٍ حول مدى موضوعية، أو حتى عدالة وضع العرب والعثمانيين في سلةِ بحثٍ واحدة.

القرون الثلاثة التي أمضتها الإمبراطوريتان الصينية والعثمانية في غلق الأبواب وحكرها على جوانب معينة، كانت هي القرون التي أسس فيها الغرب لعوامل تفوقه.

قامت الإمبراطورية الصينية بحرق أسطولها من السفن، كرد فعلٍ على تكاليف حملات البحار شينغ خه، الأسطول الذي لم تملك دولة غربية مثله إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، وعندما عادت الصين في بدايات القرن العشرين إلى بناء أسطولٍ من السفن، في محاولة للانفتاح على العالم، اُعتبر ذلك مؤشراً مع مؤشراتٍ أخرى على إمكانية اعتبار الصين التهديد الأكبر للولايات المتحدة.

إنَ اختصار الدكتور غليون في كتابه اغتيال العقل مشكلة أو أزمة الأمة العربية في الاصطدام الحضاري بين العالم الحديث الذي شيدته أوروبا والعالم القديم الذي كانت المجتمعات العربية جزءاً منه، وصعود الهيمنة الغربية في قلب المدنية العربية، هو كمن يختصر المشكلة السورية في الاصطدام بين النظام والمعارضة خاصةً بعد انفجار عام 2011، إذ أنَ الاصطدام هو تجلٍ للمشكلة وليس سبباً لها.

 شكلت بلاد الشام منطقةُ نزاعٍ إمبراطوري منذ الألف الثاني قبل الميلاد، ولطالما كانت منطقةَ فراغٍ سلطوي، كما يقول ميشائل زومَر في كتابه "سوريا- تاريخُ عالمٍ مدمر".

الخصائص الجيوسياسية للمنطقة، وكما كانت عامل جذب لهيمنة ونزاع استعماري، نفسها عامل قوة ومواجهة له، عن امتلكت المنطقة مشروعها الخاص، هذا المشروع لا يمكن أن ينهض إلاَ من داخل المنطقة، والخطوة الأولى لتحقيقه هي في بناء المؤسسات الحاملة له في جميع المجالات. يحسمُ آدم سميث جدل تفوق الغرب على الشرق: "إنَ أول العناصر الحاسمة التي امتلكها الغرب وافتقدها الشرق، لم يكن عسكرياً ولا تجارياً ولا جغرافياً ولا تقنياً أو صناعياً، بل كان مؤسساتياً (نُظماً).

العناوين البسيطة التي انطلق منها الغرب كانت مدنية، لم تشير لا إلى العامل الجيوسياسي ولا إلى الجيش ولا إلى لأسلحة، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل منها، ولا حتى إلى شكل نظام الحكم السياسي، لكنها عوامل احتاجت الكثيرَ من الزمن والعمل والخطوات الجزئية المتعاقبة لتترسخ وتبقى وتستمر، ولا يمكن للعرب تجاوزها أو حتى العبور على بعضها والذهاب رأساً إلى الخلاصة التي وصل إليها الغرب فيما بعد، وإلاَ سيبقى المشروع مبتوراً مُفتقداً لعوامل التأسيس وسرعان ما سينهار في وجه عوامل خارجية أم داخلية، والديمومة هي من ركائز التأسيس، التي إن لم يتحلى بها هذا المشروع بقي كذلك مبتوراً، وهذا لا يُفضي إلى مشكلة بالعقل أو كما قال محمد عابد الجابري أنه عقلٌ مستقيل، بل إلى الشخصية التي توجه العقل، هذه الشخصية العربية التي لطالما أعلت شأن القيم والمبادئ فوق كل شيء، هي نفسها التي فسرت القرآن الكريم بما يتناسب مع مبادئها، وتاهت فيما بعد بين الغاية والوسيلة، إذ أنها تنتظر الوسيلة القيمية لتبني غايتها، لتُعاكس بذلك المعنى المكيافيلي.

وضع د. غليون حدسه على نقطةٍ جداً مهمة عندما رأى في كتابه "اغتيال العقل" إنَ أزمة الأمة العربية تأتي من خارج السجال القائم بين الفريقين الذي يرى أحدهما أنَ التراث هو سببُ تأخرنا وآخر يرى فيه مصدر هويتنا.

وإشارته إلى التغييرات الثورية والجذرية التي أحدثها الأمير السعودي محمد بن سلمان، خيرُ مثالٍ إلى أنَ تحديد الغاية بترسيخ أسس الدولة الحديثة وإعطائها المرتبة الأولى في سلم الأولويات، يتحدد بعمل قطيعةٍ مع كافة السجالات والإشراع باتخاذ خطواتٍ حقيقيةٍ على أرض الواقع ليتحدد المصير بالخطوات التي نقوم بها يوماً بعد يوم وذاته هذا اليوم هو المصير لما سبقه.

ليفانت - هدى سليم المحيثاوي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!