-
زافترا: روسيا مع الحوار.. وضد الإملاءات
دعا الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، روسيا للمشاركة في اجتماعات مجلس روسيا-الناتو في أقرب وقت ممكن، مشيراً إلى العديد من القضايا التي تمس المصالح المشتركة للحلف وروسيا.
جاءت تلك الدعوة يوم أمس الاثنين، في خضم تصريحات الأمين العام للناتو لصحيفة “دي فيلت” Die Welt الألمانية، بعد وصول العلاقات بين روسيا والناتو إلى “مستوً منخفض، لم نعرفه منذ نهاية الحرب الباردة”، على حد تعبير ستولتنبرغ، وبعد انقطاع لاجتماعات هذا المجلس دام 19 شهراً. خلال هذه الفترة، انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاقية “السماوات المفتوحة” من جانب واحد، وهو ما دعا روسيا إلى فسخ الاتفاقية من جانبها، وهو ما صادق عليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم أمس الاثنين أيضاً.
وكانت الاتفاقية، المبرمة عام 1992، تسمح بتحليق طائرات مراقبة غير مسلّحة، تابعة للدول الأعضاء، في أجواء بعضها البعض، بهدف تعزيز التفاهم المتبادل والثقة، ومنح جميع الأطراف دوراً مباشراً في جمع المعلومات عن القوات العسكرية والأنشطة التي تقوم به الدول الأخرى، في جو من الشفافية والنزاهة.
لقد رأت روسيا أن خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاقية يمنعها من التحليق فوق أراضٍ أمريكية، في الوقت الذي تتمكن فيه دول أخرى، ضمن حلف الناتو، على سبيل المثال لا الحصر، من التحليق فوق أراضٍ روسية، وتنقل المعلومات إلى الأمريكيين بكل بساطة.
وكانت إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، قد رفضت مراجعة قرار الإدارة السابقة بالانسحاب من الاتفاقية، وهو ما انتقدته الخارجية الروسية بشدة، محمّلة واشنطن المسؤولية عن انهيار الاتفاقية.
من جانبها، علّقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، على دعوة الأمين العام لحلف الناتو، بأن روسيا لا تتخلى عن الحوار مع حلف الناتو، وهي مستعدّة لبحث قضايا تخفيف التوتّر، ولكن بمشاركة خبراء عسكريين.
وكان ستولتنبرغ قد اعتبر أن التعاون المتزايد بين روسيا والصين يمثل “تحدّياً خطيراً”، وعبّر عن قلقه البالغ إزاء التعاون بين روسيا وبيلاروس.
في سياق متصل، كان الرئيس الأمريكي قد قال في مقال رأي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأحد الماضي، قبل أيام من القمة بينه وبين الرئيس الروسي: “إننا موحّدون في مواجهة المخاطر التي تشكّلها روسيا على الأمن الأوروبي، ابتداءً من عدوانها على أوكرانيا، ولن يكون هناك أدنى شك في عزم الولايات المتحدة على الدفاع عن القيم الديمقراطية التي لا يمكن فصلها عن مصالحها”.
كذلك فقد أعلن البيت الأبيض أن الاجتماع المزمع بين الرئيسين الأمريكي والروسي ليس “مكافأة لبوتين، وإنما سبيل جيد لفهم وإدارة الخلافات بين واشنطن وموسكو”. وقال مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، جيك سوليفان، إن “الولايات المتحدة الأمريكية سترد إذا استمرت أنشطة روسيا الضارّة ضد واشنطن”. وقال سوليفان إن البيت الأبيض لا يتوقّع نتائج ملموسة للقمة المرتقبة بين الرئيسين، بوتين وبايدن، مشيراً إلى أن “مواقع الولايات المتحدة سوف تكون أكثر متانة للتصدّي للتحديات والأخطار التي تواجهها لدى عودة الرئيس إلى واشنطن”. وذكر أن من بين التحديات مواجهة روسيا والصين والهجمات السيبرانية وقواعد التجارة الدولية.
إن التوازن الواقعي للقوى الدولية الذي كان موجوداً في مؤتمر يالطا، فبراير 1945، هو ما حافظ على توازن العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما أدى إلى ظهور منظمة الأمم المتحدة بعضوية دائمة لخمس دول لها وحدها الحق في “الفيتو”. ظل هذا التوازن قائماً حتى تفكك الاتحاد السوفيتي، وللحظة تاريخية عابرة، دامت عقداً من الزمان، توهّم الغرب أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أصبحت “قطباً أوحد” تدور حوله الكرة الأرضية، وأسفرت أوهام تلك الفترة، والظرف التاريخي الاستثنائي المؤقت، الذي كانت فيه روسيا بصدد “الخروج من التاريخ”، عن اتفاقية روسيا وحلف الناتو لعام 1997، والتي نصّت على “مراجعة العقيدة العسكرية الروسية وفقاً للحقائق الأمنية الجديدة على الأرض”، ليأخذ الناتو على عاتقه آنذاك، من جانب واحد، مسؤوليات تاريخية وتحوّلات فيما يخص الأمن في القارة الأوروبية، بكل ما يعنيه ذلك من حرية الحركة والتمدد، وضم أراضٍ جديدة للحلف، والضغط على روسيا بغرض سجنها في محيطها الأوراسي، ومحاولات مستمرة، لا زالت قائمة حتى يومنا هذا، لتفتيتها إلى كيانات أصغر.
وعلى الرغم من التزامات حلف الناتو بعد الحرب العالمية الثانية بعدم التمدد شرقاً، فإن عدد الدول المنضمة إلى التحالف منذ 1949 وحتى اليوم قد زادت من 12 دولة إلى 30 دولة. واتسعت الجغرافيا لتشمل محاولات التهام “الثمرة الأخيرة” في أوكرانيا، على بعد 600 كيلومتر من الكرملين نحو الجنوب الغربي، ولتحاول زعزعة الاستقرار في بيلاروس، على بعد نفس المسافة غرباً. بعد كل ذلك، وبعد مناورات للناتو هي الأكبر منذ ثلاثة عقود “حامي أوروبا 2021″، وبعد حشود عسكرية على الحدود مع روسيا، وقواعد عسكرية في جميع دول أوروبا الشرقية سابقاً وجمهوريات البلطيق، نستمع إلى السيد ستولتنبرغ، والسيد سوليفان، والسيد بلينكن، بقيادة الأوركسترا للرئيس بايدن، وهم يعلنونها صراحة أنهم يخافون “الأنشطة الضارة لروسيا” و”المخاطر التي تشكّلها روسيا على الأمن الأوروبي”! فهل يمكن أن يكون هناك عبث أبعد من ذلك سوى في مسرحيات صامويل بيكيت أو يوجين يونيسكو؟!
لقد تضاعفت ميزانية حلف الناتو بعشرات الأضعاف، وتبنى الحلف نهجاً عدائياً ضد روسيا، يمثل تحديّاً حقيقياً للأمن القومي الروسي، وليس التصعيد الكلامي الأخير، سوى نتيجة منطقية لسياسات منهجية مستمرة لمحاصرة روسيا من جميع الاتجاهات، بما في ذلك قواعد في دول عربية، تنفيذاً لخطة أمريكية للبنتاغون، تم تنفيذ 80% منها لتأمين التجهيزات والحشود العسكرية الجوية والبرّية المعزّزة بالقواعد الصاروخية، ولم يتبق سوى فترة قصيرة، لا تتجاوز السنة في تقديري المتواضع، حتى تكتمل هذه الخطة، ومن هناك يأتي “الحوار” مع الناتو، و”الحوار” مع بايدن، انطلاقاً من أوهام القوة والإملاءات والإذعان لإرادة الغرب. وهو أمر مستحيل، لا لقوة وزعامة بوتين، وإنما لكون الرئيس الروسي تجسيد لإرادة الشعب الروسي، الذي رفض من قبل، ويرفض الآن، وسيرفض في المستقبل أي إملاءات خارجية. فالشعب المنتصر في الحرب العالمية الثانية على أقوى جيوش عرفتها البشرية، لا يمكن أن يسجنه الناتو أو الولايات المتحدة الأمريكية في إقليم أو محيط، ولا يمكن أن تؤثر عليه أعتى العقوبات الاقتصادية وسياسات الحصار. فروسيا، لمن لا يعرف، هي أكبر دولة من حيث المساحة في العالم، تمثّل سبع مساحة اليابسة، وتتمتع بأكبر تنوع محصولي وبشري وجغرافي، إلى جانب شعوبها التي تمثل تنوعاً متجانساً من القوميات والأعراق والثقافات واللغات، يجمعها قبل المصالح المشتركة، التاريخ المشترك، الذي يعود لقرون قبل أن يكتشف العالم الجديد، ناهيك عن أن تنشأ الولايات المتحدة ككيان سياسي، ولدى هذه القوى العظمى من الوسائل والموارد والقدرات والأسلحة ما يكفي ويزيد لكي تدافع عن مصالحها القومية.
ليست دعوة ستولتنبرغ أو قمة بايدن سوى ألعاب سياسية ودبلوماسية تحاول استهلاك مزيد من الوقت حتى يتم تجهيز الخطة الأمريكية التي وضعوها لعقدين من الزمان. لكن خطط الناتو مصيرها الفشل، خاصة في ظل انهيار اتفاقية “السماوات المفتوحة”، ولن يتمكن الناتو من تحقيق التفوق العسكري على روسيا، حتى بضم ثلاثين دولة أخرى خلاف أعضائه الثلاثين. فعلى مدى العقد الأخير، تمكنت روسيا من خلال الاتصالات المباشرة مع العسكريين من الدول الأخرى، في إطار مؤتمرات الأمن الدولي التي تعقد سنوياً في موسكو، ومعارض الأسلحة والتجهيزات العسكرية، والألعاب والمسابقات العسكرية الدولية، من تعزيز قدراتها، ليس فقط في التعاون والتنسيق بين مختلف القوى، وإنما أيضاً في اتساع الرؤى، وابتكار المزيد من الأسلحة التي تجعل روسيا دوماً قادرة على الدفاع عن نفسها، والحفاظ على أمنها واستقرارها، ورد الصاع صاعين لكل من تسوّل له نفسه التفكير في تهديد أمنها القومي.
لهذا السبب أشارت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إلى ضرورة وجود خبراء عسكريين في الحوار مع الناتو، لبدء التنسيق العسكري مع وزارة الدفاع والأركان الروسية، بهدف خفض التوتر، بتفكيك القواعد العسكرية المنصوبة ضد روسيا على حدودها، وخفض الحشود العسكرية، والتنسيق الكامل بشأن برامج مناورات الناتو العسكرية، التي يجب أن تهدف إلى رفع القدرة القتالية للحلفاء بهدف الدفاع عن أنفسهم، لا الهجوم، أو التدخل في شؤون الدول المجاورة. لا شك أن روسيا مستعدة لحوار في هذا الإطار، وانطلاقاً من هذه الأرضية. أما سياسات الإملاءات، والحديث عن “المخاطر” و”التهديدات” و”الأنشطة الضارة والعدائية لروسيا”، فتلك مهاترات فات أوانها، ولم يعد لها معنى. وأتمنى ألا يكون لها مكان على طاولة المفاوضات بين بوتين وبايدن خلال أسبوع من الآن.
لقد أعلن الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أمام الصحفيين يوم أمس، أن الولايات المتحدة فرضت أكثر من 90 عقوبة على روسيا عبر التاريخ وهو ما يمثّل “حلقة مفرغة من العقوبات، من الضروري نظرياً الخروج منها، لأن العقوبات لا تسمح بتحقيق أي هدف”.
وعلى الرغم من المصالح الروسية الأوروبية المتشابكة والمعقّدة، والتي كان من الممكن أن تزدهر وتتطور خلال العقود الأخيرة بدلاً من الدوران في “الحلقة المفرغة” للعقوبات، يعاقب الأوروبيون أنفسهم أكثر من أي أحد آخر بفرض عقوبات على الجار الحليف لروسيا، بيلاروس، وحظر استخدام المجال الجوي البيلاروسي للطيران المدني الأوروبي، وهو ما عطّل الكثير من الرحلات، طلباً لممرات طيران أخرى بعيداً عن المجال الجوي البيلاروسي. فهل يتخيل الشركاء الأوروبيون ما الذي يمكن أن يسببه إغلاق روسيا، بمساحتها الشاسعة، لمجالها الجوي أمام حركة الطيران الأوروبية؟
كانت روسيا تستورد حوالي 50% من مستلزماتها الحياتية من أوروبا، اليوم تتوقف المصانع الأوروبية عن التصدير لروسيا، وهو ما يعني ضياع الكثير من فرص الأعمال في أوروبا، وبحث روسيا عن مصادر أخرى، وجدتها فعلياً، سواء في الصين أو في أمريكا اللاتينية أو في الشرق الأوسط. إن هذا النوع من العقوبات أحادية الجانب ينعكس سلبياً على من يبادر بها، لكنه لا ينعكس فقط على النخب السياسية التي تتحكم في مثل هذه العقوبات، بل ينعكس على شعوب دول بأكملها، تخرج إلى الشوارع في مظاهرات ضد البطالة، وتسريح العاملين، وإغلاق المصانع، ونقص فرص العمل.
أما عن روسيا، فنحن نرى كيف تتخلص من الآثار الاقتصادية السلبية التي فرضت عليها تدريجياً، وها هي تنظر اليوم في دعوتي بايدن وستولتنبرغ للحوار من أجل خفض التوتر.
ليفانت - رامي الشاعر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!