الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
روسيا ومشكلات الانتقال إلى نظام عالمي جديد
عمار ديوب

حققت روسيا بعضاً من أهدافها، حيث دمرت البنية التحتية العسكرية لأوكرانيا، وتحاول رسم حدود "جمهورتي" دونتسيك ولوغاتسك وفصلهما، وإجبار أوكرانيا على الاعتراف بروسيّة جزيرة القرم.

أوكرانيا أصبحت تعترف بعدم الدخول في الناتو، وبخصوص انضمامها للاتحاد الأوربي لا تمانع روسيا ذلك. استراتيجية روسيا لم تكن فقط غزو أوكرانيا، وكذلك تعاملت معها أمريكا كتهديد للهيمنة الأمريكية على العالم، وحاولت حشد العالم بأكمله من أجل محاصرتها، وتلقين الدرس إياه للصين في حال غزت تايوان.

لم تنجح الإدارة الأمريكية كثيراً، وإن شدّت من أواصر الحلف الأطلسي، ومن العلاقات مع أوروبا ومن الدول المشاركة بالناتو، وربما باستثناء تركيا. الأخيرة لا تثق كثيراً بالناتو ولا بالاتحاد الأوربي، حيث لديها مشكلات مزمنة مع أوربا، وبخصوص العلاقة مع أمريكا أيضاً هناك مشكلات كبرى، وتتعدى الموضوع السوري، وعدم دعمها في مواجهة روسيا أو الأسوأ، بالنسبة لتركيا دعمها للمشروع الكردي في هذا البلد.

بدت الإدارة الأمريكية أكثر إصراراً على عزل روسيا، أكثر من أوربا الغربية، ولكن سياساتها الفاشلة عالمياً في العشرية الأخيرة، دفعت إسرائيل مثلاً للبحث عن أحلافٍ جديدة، وكذلك أغلبية دول الخليج العربي، وهناك الهند التي لم تطبق العقوبات على روسيا. هذه ليست معطيات بسيطة، هي إشارات قوية ضد السياسة الأمريكية. الزيارات التي قام بها وزير خارجية روسيا للصين وللهند رافقها تأكيد من تلك الدولتين على العلاقات القوية معها. لا يجوز عدم رؤية المواقف الأوربية المتبدلة، ولنقل غير المستقرة، حيث نرى ألمانيا وفرنسا تتواصلان مع روسيا بينما أمريكا وبريطانيا، تكادان تقطعان كل صلة؛ أوربا بأكملها ما تزال تتأرجح بخصوص العلاقات مع روسيا، وأية عملية تفاوضية جادة، قد تؤدي إلى تعليق الكثير من العقوبات، التي ساهمت أمريكا في فرضها.

رغم كل أهوال الحرب، وبروز أمريكا وروسيا في حالةٍ أقرب للصدام، والحديث لا يتعلق "بغضب بايدن" فقط، فإن الإدارة الأمريكية ما تزال تعتبر الصين هي عدوتها الأساسية، والأخيرة تعي ذلك جيداً، وهذا ما يجب أخذه بالاعتبار، وليس الانطلاق فقط من ضخامة العلاقات الاقتصادية بين البلدين أو مع أوروبا، حيث يشكل الاعتبار الأمريكي السابق، سبباً لسياسةٍ صينية داعمة لروسيا. أكد الساسة الصينيون قبل الحرب على "علاقة بلا حدود" وأعادوا الكرّة مع زيارة لافروف.

الإدارة الأمريكية تعي ذلك، وكذلك الصينيون، وروسيا حيدت أوكرانيا عن الناتو، وستُلحِق بها مناطق واسعة من أوكرانيا "الشرقية"، ونظراً للتفاعلات الكبرى التي حدثت في شهر الحرب على أوكرانيا، ومنها عودة ألمانيا إلى التصنيع العسكري الواسع، فربما يتشكل جيش أوربي في السنوات القادمة، وهذا جديد عالمياً. إن الدول العظمى كانت بطريقها إلى تغيير الهيمنة الأمريكية، الحرب فقط سرّعت بالوصول إلى توافقات، كي لا نقول أحلافاً كبرى، وهي قيد التشكل. هناك تقارب أكبر بين روسيا، الصين، الهند، ودول عديدة في الخليج العربي وهناك موقف إسرائيل، وأيضاً تركيا. الإدارة الأمريكية شكلت قبل عام تحالف أوكوس، وهناك تحالفات أخرى تشمل اليابان وكوريا الجنوبية.

في شهر الحرب، رأينا المواقف الدولية تتحدّد أكثر فأكثر. هذا تصعيد كبير في العلاقات الدولية؛ فإذا ما فرضته روسيا بالغزو الهمجي، فإن أمريكا فرزته بالمواقف السياسية، والآن هناك معركة تخاض دبلوماسياً، حيث رأينا لافروف في الصين والهند، وشارك بلينكن في قمة النقب في إسرائيل لإيقاف ابتعاد هذه الدول عن السياسة الأمريكية وزار الجزائر، وهناك زيارات مكوكية كثيرة، وحاولت أمريكا استرضاء تركيا وتغيير سياساتها إزاءها، واتجهت نحو فنزويلا وكذلك إيران، وطرحت إعلامياً حذف حرسها الثوري من قائمة الإرهاب الأمريكية.

هناك علاقات دولية جديدة تنشأ هنا وهناك، وتتجاوز التفاضل بين الدول الاستبدادية والديموقراطية، وهذا ليس لأن الهند كبلدٍ ديمقراطي أقرب إلى روسيا.. لا، القضية تكمن في السياسة البراغماتية "والانتهازية" لأمريكا، وصعود الصين الكبير، ورغبة موسكو في استعادة دورها الأوراسي والدولي، وحتى بريطانيا تحاول أن تستعيد بعضاً من مجدها السابق، ولكن تحت الرعاية الأمريكية؛ كل هذه المعطيات تحتاج نظاماً عالمياً جديداً.

ستكون الإدارة الأمريكية في مشكلة كبيرة مستقبلاً؛ فليس من إمكانية لإبعاد روسيا عن أوروبا أو العكس، وبتوقف العمليات العسكرية سيكون التفاوض على إعادة ضخ الغاز والنفط من روسيا كما كان، وهو بالأصل لم يتوقف، وبالطبع لن تقبل الأخيرة استمرار العقوبات. رغم الملاحظة الأخيرة، فالخلافات بين روسيا وأوروبا لن تتوقف، ومنها موضوع حدود الناتو والشروط الأمنية التي طرحتها موسكو قبل الغزو ولم تُلبَ، حيث أرادت تفكيك قواعد الناتو من أوروبا لشرقية، وهناك الخلاف في شكل النظام السياسي.

الجديد في العلاقة مع موسكو أن أوربا رأت ظهرها العاري تماماً، فقد عانت هي أيضاً من نتائج نقص الغاز والنفط الروسي، وضرورة إيجاد البديل، أو تنويع الصادرات، وليس من العقل بمكان الاعتماد شبه الكامل على الموارد الروسية، وكذلك يجب التدقيق في حجم التبادل التجاري والاقتصادي مع روسيا؛ هذه مشكلة لروسيا وللاتحاد الأوربي معاً، وتجاوزها يحتاج إلى نقاشاتٍ مستفيضة بينهما بالضرورة.

أمريكا بدورها ليست سعيدة باستمرار أو تقدم التفاوض بين أوكرانيا وروسيا، ولن تكون كذلك حينما تبدأ المفاوضات بين روسيا والاتحاد الأوربي، وكافة محاولات أمريكا لم تستطع تخفيف القلق الأوربي من تأثير نقص الإمدادات النفطية، وهناك خشية أوروبية من الارتهان إلى أمريكا "النازل نجمها" أكثر فأكثر، ورغبة أوروبا بعدم معاداة الصين وروسيا بشكل كامل.

هل وصلنا إلى نظامٍ عالمي جديد، واضح المعالم؟ إن العالم يشهد اصطفافات أكثر فأكثر، وهي كما ذكرت سابقة للغزو، وتعززت بسببه، وستَقوى حينما تخمد الحرب. الحديث عن أحلافٍ لا يعني الحديث عن حروب فورية، ولكنها قابلة للاشتعال أيضاً؛ فهناك تايوان، وهناك مطالب روسيا في منطقة منزوعة السلاح في أوروبا الشرقية ورفض الأخيرة للأولى، وهناك رفض أمريكي للسياسة الصينية والروسية، وهناك مشكلات تطال كافة القارات أيضاً، وفيها حروب صغيرة هنا وهناك.

هناك انقسام في منطقتنا؛ إن تركيا انتهجت سياسة الحياد وكذلك إيران وإسرائيل، والدول العربية مرتبكة إزاء الانقسام الدولي. القمم والمؤتمرات التي جرت في الأشهر الأخيرة كثيرة، وشملت كافة دول المنطقة، وكانت بدفعٍ من الاصطفافات الدولية بين روسيا وأمريكا، وحسناً فعلت أغلبية هذه الدول بعدم الاصطفاف الكامل.

إن نتائج غزو روسيا لأوكرانيا ستفرض علاقات دولية متأزّمة، ولن تقبل روسيا بعلاقاتٍ غير طبيعية، أو باستمرار العقوبات التي فُرضت عليها، وأيضاً سيحاول الاتحاد الأوربي إيجاد معادلة جديدة لموقعه الدولي، ودون عداوة مع روسيا أو أمريكا، وهذا ليس سهلاً عليه؛ الصين أيضاً، تريد استمرار العلاقات مع الاتحاد الأوربي وأمريكا وكذلك مع روسيا، وهذا بدوره يتطلب نقاشات دولية معقدة للغاية. إن تأزّم العلاقات الدولية لن يفضي إلى حربٍ عالمية جديدة، ولكن المفاوضات التي ستتكثف أكثر فأكثر لن تستطيع إيجاد حلول للمشكلات العالقة بين كل من الصين وأمريكا وبين روسيا وأمريكا والناتو، والآن هناك أوربا التي تتسلح جيداً.

منطقتنا خارج القدرة على التفاوض الجاد والقمم التي عُقِدت ظلّت محدودة الفاعلية، وربما شوشت قضايا المنطقة أكثر فأكثر؛ فإسرائيل لن تنصف الفلسطينيين، وهذا أحد مصادر النقد لاتفاقيات أبراهام وقمة النقب وضعف قمة العقبة، وإيران لن تغيّر من سياساتها "الاستعمارية" للبلاد العربية وتطمح إلى إعادة تفعيل الاتفاق النووي دون أية اشتراطات نحو ذلك، والدول العربية ليست بقادرةٍ على تجاوز مشكلاتها البينية وإيجاد محور عربي مستقل، وتركيا اعتمدت خيار الحياد روسيا وأمريكا، وبالتالي ستظلّ منطقتنا "مكب نفايات" لحروبٍ مستمرة، وهذا يخفف الاحتقان بين الدول الكبرى ولكنه لا يغيّر من أسباب الخلافات الكبيرة بينها، والتي بدأتها روسيا ولن تنتهي قريباً.
 

ليفانت - عمّار ديّوب

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!