-
دور إعلام النظام في مواجهة الثورة
ربما يمكن، ومع بعض التجاوز، القول إن تاريخ الإعلام -وإن تسمّى بأسماء أخرى في أزمنة قديمة متباينة- هو تاريخ البشرية منذ اللحظة التي وعت فيها ذاتها لأول مرة كأكثر من حيوانات ناطقة أو كوجود اجتماعي متعين في الزمان والمكان، وبالتالي ظل هذا الإعلام ولفترة طويلة من هذا التاريخ، وإن بصورة ملتبسة، مرادفاً للتحرّر والمعرفة، لكنه، وفي العصر الذي يمكن أن يدعى بحق عصر الإعلام، يكشف لنا عن وجه جديد: "لقد غدا أيديولوجيا جائرة تضطهدنا من خلال سعيها إلى نشر خرافة العصر العظمى، ونقصد بها مفهوم "الاتصال الكلي" أو "كل شيء هو اتصال"، لقد بات طاغوتاً بكل معنى الكلمة"، بحسب إيناسيو رامونه في كتابه "الصورة وطغيان الاتصال".
وبالطبع يمكن القول إن "رامونه" يقدم وجهاً واحداً للإعلام، وهو الوجه الذي صنعته له السلطة -على اختلاف أنواعها ومراتبها- لكن أحداً لا يجادل في أنه اليوم الوجه الطاغي على ما عداه من وجوه "خيّرة" للإعلام، خاصة في عصر يكاد هذا الإعلام أن يكون سمته الرئيسة، فإذا كان عالمنا قد شهد في العقود الأخيرة ثورتي المعلومات والاتصالات، اللتين حوّلتاه إلى "قرية كونية" لا حدود فيها ولا حواجز، كما يقال -وتلك قضية تحتاج إلى قول آخر وأعمق ليس هذا مكانه- فإن هاتين الثورتين تتقاطعان، بوضوح، وتتجسدان، بالشكل الأفضل، في الإعلام ووسائله، ولا سيما المرئية منها، والتي أصبح لها، بعد أن اقتحمت حياتنا الفضائيات ثم شبكة الإنترنت، ودون استئذان طبعاً، الكلمة الأولى ليس في التحكّم في تكوين الرأي العام والتأثير عليه فحسب، بل وفي تكوين شخصية الإنسان وصياغة أفكاره ومفاهيمه وقيمه، وبالتالي في التغيير وفي تحديد أنماط العلاقات الاجتماعية وتنشئتها والقوة الفعّالة في تكوين نمط السلوك الفردي والجماعي أيضاً وهذا هو الأخطر.
وبكلمة أخرى أصبحت وسائل الإعلام جزءاً هاماً جداً من المجتمع وتلعب فيه دوراً أخطر مما هو معروف أو مدرك، فهي ليست فقط "واحدة من العديد من المؤسسات المختلفة التي توجد ضمن مؤسسات المجتمع" و"تبيعنا الأشياء (وتبيعنا كجمهور للمعلنين)، وتساعد في تشكيل هويتنا ومواقفنا [1]، بل أصبحت المؤسسة الأهم فيه باعتبار إمكانية استخدامها كسلاح دمار شامل أيضاً، وقد ازدادت أهمية وسائل الإعلام مع دخول المجتمعات مرحلة التحول الديمقراطي والتنافس السياسي وامتلاكها وسائل جديدة للتواصل والتوصيل وأهمها الإعلام الجديد، أو البديل كما يسميه البعض، أي وسائل التواصل الاجتماعي التي نعرفها اليوم.
بهذا الإطار نفهم كيف أصبح الإعلام في عصرنا الراهن صناعة كاملة تتحكم بها أخلاق السياسة لا سياسة الأخلاق، وبالتالي لا شيء فيها يُترك للصدفة، ولا مكان فيها للهواة، بل تخضع للمعايير الصناعية المعتادة إدارة وتنفيذاً، لخدمة الهدف، أو الأهداف، التي صممت من أجلها الرسالة الإعلامية، لتكون قادرة على جذب المتلقي وإقناعه بمضمونها، فـ"الأخبار"، على سبيل المثال، ليست ببساطة، كما يقول تود غيتلين، "مرآة تعكس العالم" بل إنها "وسيلة لنقل الأفكار والرموز. منتج صناعي يعزز مجموعات من الأفكار والأيديولوجيات"[2]، وهذا هو أيضاً دور الدراما والترفيه وكل نشاط إعلامي آخر.
وإذا كان "جوزيف غوبلز" وزير النازية الأشهر أصبح "أيقونة" العصر الحديث في القدرة على خلق البروباغاندا الإعلامية وتطبيقها بمضمونها الإقصائي الفاجر ضد "أعدائه" في الداخل والخارج (تمجيد "العرق" وشيطنة اليهود داخلياً وبقية العالم خارجياً)، فإن "الحلفاء" لم يكونوا أقصر منه باعاً في هذا المجال -لكن إعلام المنتصرين ذاته غطى على هذه الحقيقة بهدف شيطنة غوبلز وحده (وهو يستحق ذلك وأكثر) وتلك صورة من قدرات الإعلام المخيفة- ويمكن هنا قراءة ما قام به الإعلام البريطاني مثلاً زمن الحرب العالمية الثانية، ففي سلسلة من الأحاديث الإذاعية في هيئة الإذاعة البريطانية من برنامجها الدولي "لما وراء البحار" عام 1940، قام اللورد "فانسيتارت" الوكيل الدائم السابق للخارجية البريطانية برسم الألمان في صورة شعب تميز طوال تاريخه بالعنف والعدوان، وما النازية سوى آخر مظاهر تلك الخصائص القومية"[3].
وبالتأكيد فإن دور الإعلام وأهميته تزدادان في زمن الحرب، أو التحضير لها، عما سبقها من فترات سلم ولو كان كاذباً، وأهم أدواره هنا يتمثّل بأن يحقق بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، هدف إقناع "ناسه" بأن يخوضوا القتال لأنهم في الجهة الخيّرة من التاريخ، وإقناع الآخرين بأن لا فائدة من خوضه، بعد أن يكون قد قام سلفاً بالفصل بين فسطاطي الخير والشر من منظور مالكه طبعاً، لأن هذا الفصل سيكون له عواقب كبيرة في استعداد الناس للقتال والتضحية.
فرضية الدراسة ومنهجها
مما سبق، تحاول هذه الدراسة مقاربة سؤال هام عن نجاح أو فشل الإعلام الرسمي السوري، وتابعه الخاص، في مواجهة الثورة، وهي تقوم على فرضية مؤداها أن هذا الإعلام بشقيه هو إعلام نظام لا دولة، وبالتالي فقد قام بالدور الموكل إليه دون القدرة على الخروج عن الأطر المرسومة له سلفاً أو اجتراح حلول ما أو وسائل مواجهة جديدة لما يحدث، فقد كان تابع بالكامل لقرار خارجي (عن مؤسسة الإعلام وليس عن النظام ككل) يحدد له المسار والهوامش الممكنة، وبهذا الإطار، إطار التبعية، يمكن فهم ما بدا على أنه نجاح في فترات وفشل في أخرى، وصولاً إلى المفارقة التي نعيشها اليوم بين نظام يبدو في موقع "المنتصر" وإعلامه الذي يبدو فاشلاً في عكس هذه الصورة وترسيخها كما يجب حتى في وعي المؤيدين التقليديين لهذا النظام.
والأمر فإن تفسير ذلك لن يكون ممكناً دون محاولة الكشف عن ماهية الأدوات التي استخدمها هذا الإعلام والرسائل التي حاول توجيهها وترسيخها عبر المراحل الثلاثة التي اخترنا تقسيم هذه الثورة إليها لأسباب موضوعية، وهي مرحلة الاحتجاجات الشعبية، مرحلة التسلّح، مرحلة التدخل الروسي، ولكن ليس كتقسيم حديّ بات، بل لضرورات القراءة فقط، حيث تداخلت المراحل مع بعضها فقد كان هناك سلاح وتدخّل خارجي في مرحلة الاحتجاجات الشعبية والعكس صحيح أيضاً، وهذا ما أدى أيضاً إلى استخدام الإعلام أساليبه جميعها في كل المراحل وإن بتركيز أكثر في كل مرحلة على ناحية محددة منها.
وسنعتمد في دراستنا المنهج التحليلي الوصفي وذلك من خلال تحليل أهم وسائل إعلام النظام وتفنيد دورها عبر السنوات الماضية.
المرحلة الأولى 2011-2012
حين وصلت الاحتجاجات إلى سوريا البلد الذي كان إعلامه يتغنّى بقول الرئيس لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية بداية عام 2011 إن سوريا لا تشبه تونس ومصر، وبالتالي نام الجميع على حرير أنه لن يحدث فيها ما حدث فيهما، وحين حدث هذا "الشيء" كان من الطبيعي أن يكون الإنكار سيد الموقف فلا شيء يحدث بزعمه والمتظاهرين هم أناس خرجوا لشكر الله على نعمة المطر كما قالت إحدى مذيعات التلفزيون السوري، وبدا لفترة طويلة أن الجميع خارج التغطية، فتسيّدت الفوضى الساحة (صحفي رفض الكشف عن اسمه تحدث عن حالة الفوضى والخوف من تحمل المسؤولية وترقب تغيير ما مع سعي حثيث من بعض الكوادر لحفظ الرؤوس نتيجة خوفهم من تكرار تجربة زملائهم في مصر وتونس وليبيا الذين وضعوا على القوائم السوداء)، وبالتالي جرى انسحاب هادئ للبعض من الصدارة، فيما انحاز بعضهم بصورة طبيعية للمحتجين ومطالبهم، أو حتى لـ"الأهل" الذين يدفعون ثمن تواجدهم "الطبيعي" في مكان الاحتجاجات فقط لا غير، وذلك على سبيل المثال وضع هذا الصحفي الذي وجد نفسه ممزقاً بين عمله، ومنصبه التحريري الهام في الإعلام الرسمي، وبين أهله الذين سقط بعضهم ضحية الرصاص، الأمر الذي دفعه للخروج الهادئ من البلد ثم إعلان المعارضة الصريحة من الخارج واتهام النظام بجريمة مقتل أهله.
ثم ومع عدم القدرة على الاستمرار في الإنكار أمام موجة الصور التي قدمها الإعلام الخارجي بدأ التركيز في إعلام النظام على "العاطفة" وحب الوطن وموقف سوريا من الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي إطلاق جمل إنشائية مكرّرة عن سوريا والسوريين، قبل أن يأتيه الوحي من الخطاب الرئاسي الأول على شكل تسمية الاحتجاجات بالمؤامرة والمتظاهرين بالمندسين فأصبحت تلك ثيمته المفضلة كلما حدثت مظاهرة ولو صغيرة في مكان ناء وبعيد مع التأكيد على أن "الدولة" ستقضي عليها سريعاً، وهنا جاء دور "المحللين" الاستراتيجيين لتسيّد الساحة الإعلامية والمرئية منها تحديداً، ولأن لا سابقة تلفزيونية سورية يُعتدّ بها في هذا المجال ولرفض بعض الأكاديميين السوريين الموضوعيين المشاركة في هذا الأمر إلا بشروطهم، وتلعثم وارتباك من تطوّع بنفسه أو اختلقته جهات أمنية محددة كمحلل سياسي، وجنوح بعض هؤلاء تحديداً للإعلان "تلفزيونياً" عن ضرورة القضاء على الحاضنة البشرية للمعارضة بالكامل، لذلك كله كان للبنانيين، الأكثر خبرة، حصة الأسد في "التحليل الاستراتيجي"، ومع هؤلاء جاءت موجة "خلصت" ومن رموزها رفيق نصرالله، وقصة العد التنازلي للمائة يوم على نهاية "المؤامرة" لصاحبها ناصر قنديل، لكن ذلك جاء بعكس ما أريد له فكان من أسباب زيادة النفور الشعبي من الإعلام ومن متابعته، بل واتساع رقعة الاحتجاجات التي جعلت من هذا الإعلام هدفاً لها.
وبالتوازي مع ذلك بدأ التركيز على تجريم الاحتجاجات واتهامها بالتسلّح والإجرام بدلائل غائمة وصور مهزوزة، وكانت تلك لحظة لا يمكن لوصفها إيجاد أفضل من حديث فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري لجريدة الأخبار اللبنانية نهاية عام 2012: "في بداية الأحداث كانت السلطة تتوسل رؤية مسلح واحد أو قناص على أسطح إحدى البنايات، الآن السلطة وبكل أذرعتها تشكو -حتى إلى مجلس الأمن الدولي- كثرة المجموعات المسلحة التي يصعب إحصاؤها ورصد انتشارها".
لكن من الواجب القول إن أخطاء بعض المعارضة مثل ما حدث من طرد للإعلام الرسمي من مؤتمر "حلبون" المعارض، كانا فرصة مناسبة استغلها هذا الإعلام للتأكيد على روايته لما يحدث واتهام هؤلاء بعدم الوطنية، وكسب بعض المظلومية و"المصداقية" في الشارع ولكن "الموالي" تحديداً.
اقرأ المزيد: فيينا.. خروج مظاهرة تدعو لكف تركيا عن تدخلاتها بالثورة السورية
وفي هذا المجال من الضروري الاعتراف بتمايز الإعلام الخاص قليلاً وخاصة "قناة الدنيا" وراديو "شام أف أم" وصحيفة "الوطن" الذين اتبعوا أسلوباً مختلفاً عن الرسمي، فقد كانوا أسرع منه إلى الأرض وإلى الاعتراف بجزء مما يحدث وإن بألفاظ وتوجهات تحيل بالمحصلة إلى "المؤامرة" طبعاً، مع سقف مرتفع نوعاً ما فاستضاف "معارضين داخليين" وترك لهم "حرية" الكلام والاعتراض ما دون الخطوط الحمر المتمثلة بالرئيس والجيش والعلم، ثم إن بعض برامجه التلفزيونية مثل برنامج "التضليل الإعلامي" اعتمد تقنية وأسلوب عرض مختلفة عن السائد فحقق مشاهدة لافتة وحضوراً "معقولاً" في الشارع في تلك الفترة المبكرة من سير الأحداث في البلد.
وكان من الملاحظ في تلك الفترة حالة إذاعة "شام أف أم" التي استغلت بحرفية مسألة انقطاع التيار الكهربائي وقدرتها على البث عبر الأجهزة الخليوية لتجتذب إليها جمهوراً كبيراً يبحث عن المعلومة وخاصة الأمنية في أي مكان ممكن.
ومن المهم الإشارة هنا إلى دور الإعلام الالكتروني فقد كان تأثيره أكبر وخاصة في قدرته على مواكبة الحدث بسرعة ومرونة لا تتوفر لوسائل الإعلام التقليدية لأن المرسل والمستقبل هما من المجتمع ذاته والتفاعل بينهما أسرع بكثير، مع الإشارة إلى تمتع بعضه بهامش استقلالي أكثر في الإشارة إلى الحدث وخاصة الأمني منه فاستطاع اجتذاب شريحة كبرى من المتابعين وربما كانت أبرز صفحة الكترونية موالية في تلك الفترة هي "يوميات قذيفة هاون" التي تميزت بسرعة تحديد موقع الحدث الأمني والإعلان عن نتائجه، ثم استغلت ذلك لاحقاً للتأثير في الرأي العام وقيادته بالاتجاه المعروف.
ومن الملاحظ في تلك الفترة أن هذا الإعلام قام وعلى غير عادته بالتركيز على العنف الذي كان يحصل في الشارع وإعادة عرض صوره مرات متتالية بكثافة لافتة، وهو ما اتضح لاحقاً أنه يهدف إلى أمر أبعد من ذلك فعرض بعض العنف كان يهدف إلى إفقاد المشاهد الحساسية لصيغة العنف الحقيقية مما يؤدي إلى عدم الاهتمام إزاء العنف وربما إلى نزعة لدى بعض المشاهدين للجوء إلى العنف في حياتهم من أجل حل مشاكله" [4]، أي التحضير ولو غير الواعي إلى موجة العنف القادمة وجعل الجميع متورطاً بها وجاهزاً لها بصورة أو بأخرى.
مرحلة ثانية 2012-2016
تتميز هذه المرحلة بطغيان السلاح والمسلحين على الاحتجاجات السلمية، وهنا وجد الإعلام فرصته الكبيرة للخروج من شرنقة الإنكار والتجاهل، فسارع، بشقيه الرسمي والخاص، متأبطاً خطاب المؤامرة، إلى العمل على ثلاثة خطوط متوازية، الأول استعادة بعض المصداقية لدى المتلقين، عبر ترك المجال لبعض الأصوات كي تتحدث عن أخطاء الداخل، مع إبراز صور للتحركات الشعبية مع التركيز طبعاً على مظهرها المسلح والتخريبي وبعض جرائمها، كجريمة آكل الأكباد في ريف حمص، لإثبات صحة توصيفه لها، وإجراء لقاءات مع بعض أطياف المعارضة الداخلية، وتغطية مؤتمراتها السياسية، واستغلال أخطاء المعارضة في هذه الأخيرة بالتحديد لإظهار فشلها من جهة أولى ومنح نفسه من جهة ثانية مظهر صاحب الحق المستهدف المغلوب على أمره، والثاني الكشف السريع والمباشر عن "زيف" بعض ما يدعيه الإعلام الآخر، إن كان عبر فضح تناقضاته وأخطائه، أو عبر تكذيب أخباره، عن طريق تفنيدها بالدليل المرئي، وكان لبعض أخطاء الإعلام الخارجي دور في "النجاح" هنا، فقد اضطرت مثلاً وكالة "رويترز" إلى تقديم اعتذار رسمي للقناة الفرنسية الثانية، لأنها زودتها بصور من الأرشيف عن مظاهرات حدثت في لبنان، على أنها من سوريا، وتلك حالة "طبّل" لها وفيها إعلام النظام كثيراً.
أما الثالث، وهو الأخطر، فقد جرى اختزال المعارضة إعلامياً، بصورة شبه تامة، بالإرهابيين عبر "عبارات وصور تتكرر بإلحاح"، وتلك الخطوة الأولى، كما يقول الراحل ادوارد سعيد، في عملية تجريد الآخر المكروه من صفاته الإنسانية، وهذا ما يجعل أسهل بكثير أن يقصف العدو من دون وخز ضمير" [5].
وهذا ما استمر وإن بصورة أكثر اتساعاً في المرحلة الثالثة.
اقرأ المزيد: أحد عشر عاماً على انطلاق الثورة السورية.. اقتصاد منهك وانسداد للأفق السياسي
مرحلة ثالثة 2016-2022
بصورة أو بأخرى هذه مرحلة "انتصار" واستعادة "ثقة" ما في الشارع الموالي لإعلام النظام بفعل التدخل النوعي العسكري الروسي وتغييره خريطة الميدان بصورة حاسمة، وهنا شهدنا تقريباً عودة إلى مصطلحات ما قبل عام 2011 الانتصارية المتشددة، وإلى الخط التحريري المعتاد من حيث إعلان القطيعة مع الأصوات العاقلة حتى لو كانت موالية، ويمكن القول إن هذا "النجاح" تعرض لانتكاسة جديدة مع اشتداد وطأة الضيق الاقتصادي على المواطنين بعد دخول قانون "قيصر" حيز التطبيق بالتزامن مع اتساع مظاهر الفساد العلني وانفلاشها وعدم قدرة هذا الإعلام على الخوض فيها تشريحاً وتحليلاً وفضحاً نتيجة لبنيته ووظيفته التابعة، وهذا ما كان سبباً في خسارته أغلب نقاطه التي حققها عند مؤيديه تحديداً الذين توقعوا أن يتعلم هذا الإعلام من درس المرحلة السابقة القاسية ولكن دون جدوى.
خاتمة
يعرّف العرب فعل الاتصال بأنه وصل الشيء وصلاً وصلة، والوصل ضد الهجران وخلاف الفصل، كما يقول ابن منظور في "لسان العرب"، لكن إعلام النظام، ونظراً لأمراضه "التاريخية"، قام، ومنذ اللحظة الأولى للاحتجاجات، بعملية فصل قاطعة بدل الوصل، فهو قد فصل أولاً، ولو لفظياً، بين موال ومعارض وطني وآخر مأجور، ثم انتقل في مرحلة لاحقة للفصل بين موال ومعارض بالمطلق، معمماً ثقافة التناقض والعداء البيني بين أبناء المجتمع الواحد، ثم وفي مرحلة ثالثة لاحقة فصل أيضاً بين ذاته كبوق تابع للسلطة وبين الموالي ذاته حين عاد لمعاملته كمتلقّ إلزامي لما يصدر عنه باتجاه واحد فأبعد كل صوت موال يتحدث ولو بخجل عن أسباب أخرى للاحتجاجات بينها الفساد والفقر والبطالة والاستبداد و"الحزب" وضرورة مواجهتها مثلاً وبالطبع لن نتحدث عن مصير من حاول ولو تلميحاً الإشارة إلى الاستبداد وضرورة معالجة بنية النظام السياسي أولاً، وبالتالي يمكن القول إن هذا الإعلام وإن نجح في تأثيم المعارضة وتجريمها إلا أنه فشل بالمقابل في المهمة الرئيسية المفترضة لأي إعلام وهي حشد الأنصار وتوسيع دائرة القبول.
لكن الحقيقة تتطلب منا الاعتراف بأن الأسباب الرئيسة لفشل هذا الإعلام تقع في خارجه أي في بنية النظام بكامله، فهو، أي الإعلام، نتاج طبيعي لمجمل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وصورتها أيضاً، لذلك لم يكن قصوره سوى نتيجة وصورة لقصور تلك البنى والهياكل، وبالتالي كان القصور سابقاً على الثورة، لكنها عرّته و"فضحته" بصورة أكثر وضوحاً.
[1] آرثر أسا بيرغر، وسائل الإعلام والمجتمع (وجهة نظر نقدية)، ترجمة صالح خليل أبو أصبع، عالم المعرفة، عدد 368 مارس 2012. ص (23)
[2] نفس المصدر السابق، ص102.
[3] إيناسيو رامونه، الصورة وطغيان الاتصال، ترجمة نبيل الدبس، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق 2009.ص 328.
[4] آرثر أسا بيرغر، وسائل الإعلام والمجتمع (وجهة نظر نقدية)، ترجمة صالح خليل أبو أصبع، عالم المعرفة، عدد 368 مارس 2012. ص (101).
[5] (ادوارد سعيد، إسرائيل-العراق- الولايات المتحدة، صحيفة الحياة اللبنانية، 24-10-2002)
ليفانت - أليمار لاذقاني
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!