الوضع المظلم
الأربعاء ٢٢ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
دمشق.. ليتها كانت مسرحاً للعبث!
جمال الشوفي

ليتها كانت فصلاً من فصول مسرح للعبث، لكنا ترقبنا عودة "غودو" كما أرادها صموئيل بيكت، وكنا تيقنا أنّ الحرب قد رحلت عن أرضنا، كما كانت قد رحلت عن أوروبا حين كان بيكت يكتب مسرحيته تلك. كنا أقمنا حوار الفيلسوف الغارق في تأملاته وتصوراته، سواء وافقناه عليها أو خالفناه عليها، مع ذلك الإنسان المكتئب والذي ما يزال حذاؤه عالقاً في قدميه منذ أن توقفت الحرب. كنا انتظرنا الوهم في سياق حلم جميل نسكن إليه كآبة مرةً وفرحاً في أخرى، كان سيوصف بالشرود الجميل، بالخروج عن المألوف، بالتمرد على قسوة واقع قائم.. لكنه لم يكن كذلك أبداً.


دمشق ليست مسرحاً للعبث اليوم! فرغم قسوة ما يعانيه سكانها من اجتياح لحضارتها وتاريخها، رغم اقتلاع وتدمير سياجها الخضري الحارس من ريفها وغوطتها، رغم أنّ القهوة تباع بالغلوة (والغلوة ركوة القهوة لمرة واحدة، والغلوة بـ500 ليرة)، والزيت يباع بالكيس (والكيس يحتوي غرامات من الزيت لطبخة واحدة بـ500 ليرة أيضاً)، وأسراب من الفتيات تمارسن الدعارة الفموية بألفي ليرة تحت أدراج البنايات (والدعارة الفموية هي شبهة الجنس الفموي بالقبلة مقابل ثمن كيس الزيت، ربما!)، ماذا أصف أيضاً! فمنذ أعوام لم تطأ قدمي حواري دمشق إلا نادراً، وكنت حينها أرى ناسها في شرود وهذيان واستغفار مما سيكون أسوء من الحاضر، ولليوم ولأكثر ما يزيد عن عام، لم أستطع دخولها عنوةً (والمنع من خفافيش ليلها ونهارها على بوابتها وحواجزها).


ومع هذا وهذا، فيض من غيض كما يقال، دمشق ليست مسرحاً للعبث! بل دمشق المدينة الأسوء للعيش فيها عالمياً حسب تصنيف صحيفة الإيكونوميست البريطانية. وحقيقة لا أعلم سبب وإصرار حرص المؤامرة الكونية على هكذا تصنيف، ودمشق من أعرق مدن التاريخ وأقدمها، ولماذا تستمر المعايير العالمية في الدوّس على حضارتنا هذه؟ ألا يكفي الأرقام التي تشير إلى أنّ 85% من السكان دون مستوى خط الفقر؟ وأنّ راتب الموظف لا يزيد عن 30 فولار (والفولار كناية لفظية للدولار باللهجة الدارجة لأنه ممنوع لفظه والتعامل به خشية السجن بوهن الشعور الوطني والتهكم على الاقتصاد القومي)، وأنّ نصف السوريين، أو ما يزيد عن 13.4 مليون منهم نازح ومهجر داخلي أو خارجي، و40% من البنية التحتية من طرق ومشافٍ ومدارس وشبكة اتصالات وكهرباء مدمرة بالكامل، وأن وأن... حسبي الله وأستغفره فلله في خلقه شؤون وأحوال.


هذا، بينما تعدّ مبادرات وملتقيات سورية شعبية المسرحية التاريخية الميدانية الكبرى، حسب وكالة سبوتنيك الروسية للأنباء، بعنوان: "أرض الشمس"، وأرض الشمس تشرق بوجودكم، العمل الذي يروي بطولات وانتصارات الشعب السوري عبر التاريخ ضمن محاكاة واقعية للأحداث، ومؤثرات بصرية وصوتية مبهرة تُستخدم لأول مرة في سوريا، وذلك في مدينة السيدة زينب في ريف دمشق، حسب ذات الوكالة أيضاً. والحقيقة لا أعلم إن كان العرض قد تم أم لم يزل قيد التحضير! فمصدر الوكالة يقول "تم" إنتاجه وعرضه.. وذلك بمشاركة 200 فنان سوري "لتقديم العرض"... وألتمس العذر منكم لعدم تيقني من الحدث لعدم قدرتي على الذهاب لدمشق.


هي أرض الشمس فعلاً وحقيقة وتاريخاً، والشمس اسمها الروماني القديم، قبلة الحضارات وتاريخها الخلاق والمبدع، هي إحدى أقدم عواصم التاريخ وأعرقها، ومنها أقدم اللغات المكتوبة، وأقدم تشكيلات الجمعيات المدنية في التاريخ، ومنها ماري وآرام وعشتار ورقصة الجمال والحياة والحب والخصب، قصة الحنطة وتاريخ الزرع والتجارة، جنة العرب وقبلة تجارتهم، وسيل من حضارات التاريخ التي مرت على بلاطها، ومع هذا بقيت عابقة بالياسمين والنكهة العروبية السورية الآسرة.. فكيف تستوي اليوم أسوء مدينة للعيش في العالم بذات الوقت مع هذه الكرنفالات المسرحية الكبرى.


لا عجب! فقد نسي المخرج والمؤلف أن يذكر أنّ أحد الوزراء من يومين فقط قد صرّح بأنّه على التجار إنتاج ما أسماء بأشباه الألبان والأجبان، وذلك بغش اللبن والجبن بأي طريقة شريطة ألا يسمى لبناً أو جبناً، وذلك تخفيفاً على المواطن لزيادة الغلاء، خاصة في أسعار الأعلاف وغيرها.. فهل تم غش المسرحية بذات الطريقة؟ أتساءل هل كان يعني المخرج والمؤلف أنها بلاد الشمس في التاريخ؟ أجيب بثقة نعم، ولكنها اليوم أشباه الشمس والعتمة والعفن التاريخي.. وهل يحق لي السؤال؟


لا عجب! فلم تتأخر الحكومة، أو أشباه الحكومة هذه، أكثر من أربع وعشرين ساعة للاستجابة لتهديد شركات الأدوية برفع أسعار الأدوية وإلا فقدت من الأسواق، والخيار واضح: إما غير موجود، أو موجود بسعر خيالي، فكان أن ارتفع للمرة السادسة أو السابعة بنسبة 30 إلى 40 % فقط.. ولا أعلم كم مرة بالضبط خلال الأعوام السابقة ارتفع سعره! فهل هذا الدواء للمواطنين أم لأشباه المواطنين؟ بينما لو اجتمع مئتا طالب كفروا بالحواجز والتقارير الأمنية الكيدية وغلاء المعيشة وطالبوا بحقهم بالحياة الكريمة، وقالوا بدنا نعيش، أو بدنا سوريا، بدنا بلاد الشمس كما كانت، لانهالت عليهم الأجهزة الحكومية والحزبية والسلطوية والأمنية وكل صنوف التقارير بالضرب والاعتقال وتهمة الإرهاب والتعامل مع العدو اللدود خارج الحدود.


دمشق لم تخرج عن مألوف الحرب بعد، ولم تبتكر بعد مسرحها وأدبها العبثي، ولا سريالية فنها، ولا فلسفتها الوجودية بعد، كما فعلت أوروبا ذات يوم حين استنكرت الحرب ومشغليها واختارت حريتها بأية طريقة أدبية وفنية وثقافية حتى من الدول المنتصرة في حروبها وقتها، بل يتم العبث المقصود فيها، بتاريخها بحاضرها، بشوارعها وثقافتها، بالإصرار على لغة الانتصار الزائفة بالحرب على جيل الشباب ومستقبلهم وتزييف حقائق التاريخ وطمسها، فيما يسمى عهر الساسة والمصفقين والمطبلين والمزمرين والمهلهلين للغة الإنكار! وليتها كانت إنكاراً للحرب، بل هي إنكار للواقع والحاضر الدامي والكارثي، فبتنا نعيش مسرحية تنكرية عنوانها: باب الحارة المعتم، وأبواب دمشق الموصدة عن الشمس.


جمال الشوفي


ليفانت - جمال الشوفي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!