الوضع المظلم
الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
حزب العدالة والتنمية والدولة التركية
مرشد اليوسف

الأحزاب التي تحكم بلدان الشرق الأوسط سواء تلك التي جاءت إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية أو تلك التي جاءت إلى الحكم عن طريق الانتخابات الديمقراطية أو تلك التي لم تصل إلى الحكم بعد، فإن معظمها لا تحترم إرادة الشعب ولا تحترم سيادة الدولة ككيان مجتمعي، أو كمؤسسة وطنية عامة قائمة لصالح جميع المكونات ويحكمها عقد اجتماعي، ليس هذا فحسب، بل إن تلك الأحزاب تتماهى مع مؤسسات الدولة وتحل محلها في أغلب الأحيان لدرجة يصعب معها التمييز بين سلطتها وسلطة الدولة. 

ويعتبر حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا منذ سنوات وحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا أو في العراق (أيام صدام حسين) خير شاهد على ما نقول، وهنا أريد أن أقدم صورة واقعية عن حزب العدالة والتنمية كنموذج لهذه الأحزاب في الشرق الأوسط وهي بالتأكيد صورة مغايرة للصورة النمطية المتداولة عن السياسة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية في الداخل والخارج.

وأريد هنا أن أطرح مقاربة مختلفة تلمس الواقع السياسي التركي وتشخص المشكلة وأرجو أن يستقبلها القارئ دون تشنج أو اندهاش وأن يؤجل حكمه قليلاً وألا يتسرع، وسوف أعتبر طرحي هذا شكلاً من أشكال التأملات الخاصة وآمل أن يفحصها القارئ ولا بأس إذا اختلفنا.

المفارقة

إذا قارننا بين حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى الحكم في تركيا عن طريق الانتخابات الديمقراطية الحقيقية (حسب وصف الحكومة التركية)، وبين حزب آخر جاء في بلد آخر إلى الحكم بواسطة الانقلاب أو الانتخابات الصورية، فإننا سوف لن نجد فارقاً كبيراً بينهما من حيث الاستئثار بالسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية ومن حيت تهميش فئة أو أكثر من فئات المجتمع، حقوقياً وسياسياً واقتصادياً، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأقليات القومية والطائفية والمذهبية...إلخ. ولا نتجنى على حزب العدالة والتنمية إذا قلنا إنه يجمع السلطات الثلاثة في يده، من الرئيس إلى رئيس الوزراء إلى الوزراء إلى أعضاء البرلمان وغيرهم.

وقد يتساءل سائل ما المشكلة في ذلك إذا كان قد جرى الأمر بشكل ديمقراطي (على الطريقة التركية) وهنا سأتفق مع السائل وأعتبر المسألة طبيعية وأقر بأن من حق حزب العادلة والتنمية وفق الدستور أن يستأثر بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لأنه فاز بالأغلبية الساحقة عبر الانتخابات الديمقراطية (اللهم لا اعتراض) ولكن اعتراضي جاء عندما محا حزب أردوغان  كيان الدولة التركية العتيدة وحل محلها وعندما أخذ ينفذ الأجندات السياسية والأيديولوجية الحزبية والعنصرية (حرمان مكون أساسي من مكونات الشعب التركي من حقوقه الوطنية والثقافية والقومية، وأقصد المكون الكردي الذي يبلغ تعداده عشرين مليوناً أو أكثر (أي 25% من سكان تركيا) بحجة أنه ليس من القومية التركية أو يحرم عشرة ملايين علوي أو أكثر من حقوقهم المذهبية أو الطائفية بحجة أنهم ليسوا من المذهب السني) على حساب أجندة الدولة التركية التي من المفترض أن تكون أجندة الشعوب التركية.  

وضمن هذا السياق هناك ثلاثة أسباب رئيسة تدفع حزب العدالة والتنمية إلى هذه الهوة السحيقة:

1-  يعتقد حزب التنمية والعدالة أنه الدولة والدولة حزب العدالة.

2- يعتقد حزب العدالة والتنمية أنه الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية.

3- يعتقد حزب العدالة والتنمية وبقناعة راسخة أن أمريكا والغرب وإسرائيل يؤيدونه وأنه يستحق هذا التأييد بوصفه العضو المهم في حلف الناتو.

وإذا حللنا هذه الأسباب الثلاثة إلى عواملها الأولية وفق منظور سياسي معاصر، فإن سياسة حزب العدالة والتنمية وفق هذا النمط البائد من التفكير يدخل الدولة التركية في أزمات لا يمكن التكهن بنتائجها، وأثبت التاريخ عدم صحة هذه الأطروحات، خاصة بعد تغير ديناميات البيئة الدولية في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وما فرضته من أدوار جديدة للقوى التقليدية، ومنها تركيا.

وإذا دخلنا في عمق الموضوع وأخذنا التعامل مع المكون الكردي كنموذج لسياسة حكومة حزب العدالة والتنمية تجاه مواطنيه وذهبنا أبعد من ذلك وفصلنا بين حزب العمال الكردستاني وبقية المواطنين الأكراد ووافقنا جدلاً حكومة أردوغان واعتبرنا أن حزب العمال الكردستاني حزب انفصالي كما يزعم فما ذنب الشعب الكردي الذي يعاني الفقر والحرمان والتهميش منذ ما قبل ظهور الحزب الكردستاني بعشرات السنين ومنذ ما بعده بعشرات السنين؟ وما هو سبب القتل والقمع الذي يطال المواطنين الأكراد في شمال شرق سوريا يومياً في ظل حكم حزب العدالة والتنمية؟ وما هو سبب إغلاق حزب الشعوب الممثل الشرعي للشعب الكردي واعتقال المئات من قادته؟

أسئلة نطرحها على أردوغان ونطلب منه الجواب.

ولو فكر حزب العدالة والتنمية لحظة بعقلية الدولة كمؤسسة عامة لصالح جميع المكونات لفتح الباب على مصراعيه أمام حل وطني للمشكلة الكردية حقناً للدماء التركية والكردية على السواء، خاصة وأن الجانب الكردي، وعلى رأسه حزب العمال الكردستاني (حسب بياناته وأدبياته وتصريح قادته) يسعى بكافة السبل إلى حل المشكلة سلمياً ضمن وحدة البلاد وبالتفاوض وأعلن أكثر من مرة عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد.

على ضوء هذه التفاصيل، أعتقد أن حزب العدالة والتنمية ينفخ في قربة مثقوبة عندما يفكر بإحياء روح الإمبراطورية العثمانية على حساب الشعوب والأقليات المغلوبة مرة أخرى، فهذا النوع من التفكير يعتبر شكلاً من أشكال الجنون السياسي وضرباً من الوهم والخيال، وهو في النهاية تفكير عبثي لا يقبله العقل والواقع ولا يمكن إرجاع الزمن إلى الوراء، ثم إن المصالح الاستراتيجية الأمريكية والأوربية والإسرائيلية تحكم العلاقة مع تركيا، وطالما أن لأمريكا والغرب مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية في الشرق الأوسط، فإن تركيا ستظل منطقة بالغة الأهمية والحساسية بالنسبة للغرب عامة، والولايات المتحدة، خاصة لجهة الدور المهم لتركيا كنافذة على محاور وبلدان ذات أهمية خاصة، بالنسبة لواشنطن، مثل روسيا وإسرائيل والعراق وإيران وسوريا وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان، ولجهة موقع تركيا كطريق عبور رئيس للقوات والمعدات الأمريكية المتجهة للعراق وأفغانستان والشرق الأوسط، لا سيما إذا قررت أمريكا ضرب إيران، وتبقى تركيا طريق عودة رئيس عند خفض أمريكا لقواتها في الشرق الأوسط، ويمكن لقاعدة إنجيرليك الجوية في جنوب شرق تركيا أن تقوم بدور رئيس في حالات العبور والعودة والوقوف في وجه روسيا.

وكلما كانت تركيا ضعيفة غير مستقرة وغير متصالحة مع مواطنيها تكون استجابتها أكبر للمصالح الغربية ومصالح أمريكا، وتأخذ صفة الحليف ذي المواصفات العالية لديهم وهذا هو مربط الفرس.

ورأينا كيف صعقت أمريكا في عام 2003 عندما عارضت أنقرة غزو العراق ورفضت السماح للقوات الأمريكية بنشر قوات على أراضيها، وهذا الرفض بالذات كان القشة التي قصمت ظهر البعير بين أمريكا وتركيا، وأدركت أمريكا بعد هذا الرفض التركي أن أفضل وسيلة للسيطرة على الأخيرة هو إشغالها بمشاكل داخلية وإضعافها. وبلع حزب العدالة والتنمية الطعم الأمريكي ولم يستجب لنداءات حزب العمال السلمية واستمر في حربه مع مواطنيه الأكراد.

في هذا الوقت ينبغي أن يدرك المراقب السياسي أنه أمام حزب مغفل مخادع يضع مصير شعوب تركيا في أيدي حزب مغامر ويوظف المقدس الديني في خدمة أغراضه الحزبية الضيقة، حيث يصل الاستخدام إلى حد توظيف الدم التركي والكردي في خدمة مصلحة بقائه واستمراره على رأس السلطة في تركيا. ولو فكر حزب العدالة والتنمية بعقلية الدولة الراشدة ووفقاً لمصالح الشعب التركي بأتراكه وأكراده لتصالح مع شعبه وهو أساس قوة كل دولة.

ليفانت - مرشد اليوسف

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!