-
حركة طالبان والمعارضة السورية وأصول التفاوض
يصعب علينا أن نحب حركة طالبان، ولكن العدل يقتضي الإشادة بمشروعها، نعم مشروعها لاستعادة أفغانستان كاملة. الحركة ترفض التفاوض مع حكومة أمريكا في كابول، قبل إنهاء التفاوض مع الدبلوماسية الأمريكية بخصوص إنهاء احتلال بلادها، وضمن ذلك يبدأ التفاوض مع حكومة كابول وقواها السياسية.
لا تستعجل حركة طالبان التفاوض على أية طاولة أو مائدة، ولهذا لم تتوصل إلى اتفاقية كاملة في الدوحة إلا بعد لقاءات كثيرة، أخفقت عدة مرات، وحتى مع ترامب وبادين كادت أن تفشل تلك المفاوضات، وبالنهاية، تستعد حركة طالبان لتعود إلى كابول بقوة السلاح أو باتفاقية مع حكومة كابول. هذا ما لم تفهمه المعارضة السورية المكرسة، والتي تركت البلاد إلى الخارج، وبدأت تخوض نضالاتها "الثورية" هناك، وهذا دفعها للخضوع إلى حسابات ومصالح الدول، والتي فرضت عليها تشكيل المجلس الوطني أولاً ثم الائتلاف الوطني، وبعدها فرطت المسبحة نحو هيئة عليا للتفاوض، والأخيرة تم تغيير وجهتها الأولى، ولاحقاً شُكلت حكومة مؤقتة، ووفد إلى أستانا، وآخر إلى اللجنة الدستورية، وسواه كثيرة، والأسوأ أنه ليس من جامعٍ يجمع بين هذه الشلل "الرديئة".
تشتّتت المعارضة، ولم تضع ثوابت لها، تدخل وفقها إلى أية مفاوضات أو تشاورات؛ وعكس طالبان، التي لا يعترف بها أحد في العالم، فقد اعترفت مئات الدول بالائتلاف الوطني 2012، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ أغلبية الدول سَحبت اعترافها أو همشت قيمته، بينما حركة طالبان لديها مكتب واحد للاتصال، يمثل مكتبها السياسي في الدوحة، وعبره تتواصل مع أمريكا والعالم.
الآن، حركة طالبان تنتظر عودتها إلى كابول، بينما لم يعد من أي اعتبارٍ دوليٍّ للمعارضة السورية. نعم المعارضة المكرسة تتحمل مسؤولية إهدار تضحيات السوريين بسبب سياساتها غير الوطنية والعفوية والالتحاقية بالخارج. حركة طالبان، ورغم أنها حركة إسلامية إلا أنّها "وطنية استبدادية" أيضاً، أي ترفض أية احتلالات أجنبية وتريد استعادة بلادها كاملة، ومن هذا الموقع نراها تُحذّر تركيا من مغبة الانخراط في احتلالٍ جديد لبلادها عبر توكيلٍ أمريكي لها بحماية مطار كابول، وتَسخر من المعارضة السورية، وفق ما نُقل عنها، وتؤكد أن على تركيا أن تتعامل معها كما حركة الوفاق في ليبيا، أي ليس من موقع التبعية والدونية و"الارتزاق".
تَسقط حجة أن لا نظام يماثل النظام السوري في قمعه، والسؤال ماذا فعلت أمريكا بأفغانستان منذ 2001؟ حجة شراسة النظام ليست سبباً في فساد رؤية المعارضة السورية لوضعها وللثورة السورية ولمستقبل هذا البلد. إن قوة علاقة طالبان بالدولة الباكستانية لا تجعل منها تابعة لها، بل العكس هو الصحيح، فباكستان تتخوّف من عودة طالبان لكابول، حيث من الممكن أن تقوى طالبان على باكستان من جديد. المعارضة ممثلة بالائتلاف ووفد أستانا للمعارضة وسواه يبرر للاحتلال التركي السيطرة على مناطق واسعة من سوريا، ويعادون الأكراد الذين يحبذون الأمريكي بدوره، بينما طالبان ترفض كافة أشكال الاحتلالات.
تعدّت مفاوضات حركة طالبان العلاقة مع أمريكا، فهي ترسل الوفود وتلتقي مع ممثلين للدولة الروسية والإيرانية والباكستانية، وتؤكد أنها لا تستهدف دولها، وترفض أن تكون أفغانستان أرضاً للمنظمات الجهادية كداعش، ولن تسمح باستخدام أراضيها للوصول إلى جمهوريات آسيا الوسطى. ما تزال طالبان مصنفة كدولة إرهابية في هذه الدول وغيرها؛ والآن تطلب ودها تلك الدول والصين، وتسعى لأفضل العلاقات معها. من الواضح أن العالم لا يتعامل مع حكومة كابول "الأمريكية" على محمل الجد، ويرون طالبان ممثلة فعلية لأفغانستان. الأخيرة أثبتت أنها تجيد اللعب بالسياسة، فحينما طُردت بقوة الاحتلال الأمريكي من كابول عادت لتتموقع في معاقلها التاريخية، وخاضت حروباً متعددة الأشكال، وأثخنت بالقوة العسكرية والأمنية في كابول، وها هي تتقدم بسرعة، وتسقط المدن والبلدات أمامها، وتقريباً بلا معارك، وتكاد تطوق العاصمة، وخلال وقت قصير نسبياً، وضمن ذلك سيطرت على المعابر الحدودية مع دول كثيرة.
في سوريا حدث العكس تماماً، حيث، وبعد أن أضحت أغلبية سوريا خارج سيطرة النظام، وتقهقرت أمام الفصائل إيران وميليشياتها، تدخلت روسيا بطلبٍ إيراني وبموافقة أمريكية، وبدأت منذ حينه فصول التراجع، عبر أكذوبة مناطق خفض التصعيد والمصالحات، وسَلمت أمريكا وتركيا كل من درعا والغوطتين وحمص وحماه لروسيا، وقبل ذلك هُدّد النظام لأكثر من مرة بالسقوط، وكانت نجاته تتعلق ب"لجم" فصائل المعارضة من قبل الدول الداعمة لها! النظام لم يعترف بأيّ شكلٍ للمعارضة، وحتى بهيئة التنسيق الوطنية، وللحقيقة هو لم يعترف حتى بالجبهة الوطنية التقدمية إلّا كأداةٍ وظيفية لتعميم أكذوبة ديموقراطيته، ومنذ السبعينيات. هنا يلتقي النظام بطالبان، وتفترق المعارضة عنهما، حيث تعدّدت مؤسسات الثورة وأشكال الفصائل، وطغى التعدّد أيضاً على الفصائل الإسلامية، وهناك تقارير كثيرة، تربط بين داعش وجبهة النصرة وسواها بالنظام السوري أو بأجهزة استخبارات كثيرة. أية مقارنة مع حركة طالبان، ستقول إن هذه الحركة أكثر مبدئية و"وطنية" من كافة القوى السياسية المكرسة والفصائل السورية، حيث أشادت تحالفاً مع قوى عديدة.
هناك من يقيم مقارنة بين حركة طالبان وهيئة تحرير الشام، حيث إن الأخيرة تعتمد أساليب التراجع هنا وهناك، وإقامة صلات مع تركيا، وهناك رسائل الجولاني الأخيرة إلى أمريكا، وسواه. الحقيقة لا يوجد أي وجه للمقارنة، حيث لعبت هذه جبهة النصرة أدواراً كارثية عبر تفتيت الفصائل ومنذ 2012، وتسليم المناطق للنظام السوري وبلا معارك تذكر، كما حدث بعد اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا 2019، وحاربت بشكل مستدام الفصائل الحرة، بدلاً من أن تتحالف معها. وبالطبع لا وجه للمقارنة بينها وبين داعش، وبالمثل خضع جيش الإسلام للسعودية، وبالتالي تميزت طالبان بالصبر والحنكة السياسية، بعكس لحظة رفض تسليم ابن لادن لأمريكا2011، وخسارتها للإمارة.
مشكلتنا لا تقف عند المعارضة المكرسة، بل وفي المعارضة الناقدة لها، حيث تتكرّر الانتقادات ومنذ 2011، ولكنها لم تفضِ إلى معارضةٍ موحدة ومشروعٍ سياسي وطني، يتجاوز عقلية السلطة بإنكارها المطلق للثورة، والمعارضة بإنكارها المطلق لمسؤولية ما لها عن مأساة الوضع السوري.
هل تتمكن طالبان من النهوض بمشروع وطني بالفعل؟ للدقة هي تتصرف بعقلية المشروع الوطني، ولكنها حركة جهادية سلفية، أي هناك خلافات كثيرة تبعدها عن قوميات وحركات سياسية أفغانية أخرى، وليس فقط قوى السلطة هناك. طالبان معنية بإبعاد الجانب الدعوي والسلفي، والاتجاه نحو عقلية وطينة ومواطنية، والاعتراف بحقوق المرأة والإنسان ومحاربة التنظيمات الجهادية على أراضيها كالقاعدة وداعش، بينما أفلست المعارضة السورية المكرسة بالكامل. المعارضة الناقدة للسابقة، معنية بصياغة مشروع وطني، وإنتاج قيادة غير تابعة لهذه الدولة أو تلك. طالبان لن تطأ أقدامها السلطة وللاحتلالات وجود في هذا البلد، وعلى تركيا أن تعي ذلك، بينما المعارضة السورية بكل أشكالها لا تمتلك مشروعاً مناهضاً للاحتلالات؛ فبعضها يقول تركيا صديقة، وبعضها يقول روسيا صديقة، وأخريات تؤكدن علاقتهن بالإدارة الأمريكية، وهناك من يرحب بإسرائيل.
يستحق الشعب الأفغاني قيادة أفضل من طالبان، وكذلك السوريون.
ليفانت - عمار ديوب ليفانت
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!