الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
جنون الشهرة
نرفت عمر

بعد ثورة الاتصالات المتقدمة وتوافر تطبيقات عديدة في متناول أيدي الجميع بمختلف الأعمار والجنسيات، عالماً كان أم جاهلاً، صغيراً أم كبيراً، ومع سهولة استخدام هذه التطبيقات للتواصل الاجتماعي، كفيسبوك وإنستغرام وحالياً تيك توك، حيث تتم مشاركة صور وفيديوهات للحظات فرحة وأحياناً حزينة مع الأهل والأصدقاء.


كما يتم نشر إنجازات مهمة في الحياة وأحداث مثيرة للفكر والإنسانية لتبادل الخبرات الحياتية البناءة. إلا أنّ ظاهرة جديدة بدأت تجتاح المجتمعات الإنسانية على اختلاف ثقافاتها ومواطنها، وهي اندثار الخصوصية وحب مشاركة كل كبيرة وصغيرة من تفاصيل حياتية لشخص ما، ليس فقط مع الأهل والأصدقاء، بل مع جميع من يمكنه الوصول إلى هذا المقطع. رغم أن الهدف الأساس من منصّات التواصل الاجتماعي هو إعادة العلاقات القديمة التي ربما انقطعت بسبب الحرب أو السفر وإمكانية إعادة تواصل أوصال عائلة تشتت أو أصدقاء طفولة. لكن تدخلت الإعلانات التجارية لتأخذ حيزاً لها ثم انجرفت هذه التطبيقات تدريجياً لتصبح مسرحاً لصور وفيديوهات عن تفاصيل حياتية مملة يومية ساذجة لأشخاص فضلوا العيش بحياة افتراضية مختبئين وراء شاشاتهم مظهرين الجانب الإيجابي من حياتهم وشخصياتهم فقط، للشعور بالرضا والتقدير من خلال الجمهور المتابع، فتخرج عن السيطرة شيئاً فشيئاً بسبب الترند أو ما يسمى نسبة المشاهدات ليصبح من لديه أكبر عدد متابعين كمن نال جائزة فيجهد للحفاظ عليهم والعمل على زيادة عدد متابعيه عن طريق مشاركة فيديوهات للحصول على أكبر عدد من التعليقات واللايكات وحثّ متابعيه على دعمه عن طريق المشاركة ليصل لأكبر عدد ممكن من مستخدمي هذا التطبيق.


يستميت الكثيرون في سبيل الحصول على الشهرة وذلك لوجود ثلاث نقاط أساسية تعتبر الدافع الأكبر لهذا الهوس:
١ - ارتباط الشهرة بالإعجاب والحب والتقدير، الحب حاجة من الحاجات الإنسانية الأساسية متواجدة في كل البشر.
٢ - ارتباط الشهرة بالتأثير والتغيير، كل إنسان يسعى ليغير ويؤثر بمن حوله، من أفراد ومحيط اجتماعي، ولكن التغيّر للأسوء أو الأحسن يشكل فارقاً كبيراً، فكل منهما سوف يوضع في الأرشيف الحياتي وذاكرة التاريخ.
٣ - ارتباط الشهرة بالمردود المادي والكسب السريع مع فتح كل الأبواب المغلقة وتلقي الترحيب الهائل من المتابعين مع التفاخر بعلاقات اجتماعية مرموقة وأحياناً سياسية.


من المؤكد هناك محتويات رائعة ومفيدة وأحياناً قد تكون مسلية فقط ومضحكة ولكن برقي، حيث يتم طرح فكرة غير مبتذلة ومضحكة، ولكنها ذات معنى، تلقي الضوء على جانب من جوانب الحياة بشكل إيجابي ومفيد أو تحمل فكرة ذات رسالة سامية تطمح بالارتقاء الإنساني والفكري، إلا أنه للأسف يوجد في المقابل مشاهد هزلية غاية في السخافة عقيمة المعنى والقيمة، تطرح بشكل متزايد كأنها عدوى.. كأنّ هناك سباق لمن يستطع أن يبدي سخافة أكثر مبتعداً عن المعايير الإنسانية والأخلاقية في الكثير من الحالات.


طبعاً لا يهم من نشر هذا المحتوى، كمية التعليقات السلبية المتوجة بالشتائم والتنمر التي سيحصل عليها باستحقاق، مادامت نسبة المشاهدات ترتفع وتحصل على مشاركات وتعليقات كثيرة، بل بالعكس، يجد الكثير أنه كلما كان الفيديو مستفزاً وتافهاً ومنافياً للأخلاق والمعايير الإنسانية كلما استطاع أن يحرز نجاحاً أكبر بالانتشار، وأصبح مشهورا أكثر، وإن كان مكروهاً من قبل جمهوره المشاهد (أيضاً لا يهم)، فالكره نوع من أنواع المشاعر الإنسانية التي تدفع الناس للتفاعل وإبداء آرائها مما يسهم بتحقيق المطلوب.


أصبح حب الفضول ومعرفة أدق التفاصيل الحياتية لمشاهير أو حتى أناس عاديين جداً، الشغل الشاغل لشريحة واسعة من المجتمعات، مما خلق دافعاً قوياً لنشر المزيد من فيديوهات عن مناسبات خاصة ونشر صور مبالغة فيها من ديكورات وملابس وموائد متنوعة مع ضحكات مزيفة بالفرح لمجرد الإعلان عن فرح ما، مجردين الخصوصية من حياتهم عارضين أنفسهم للمقارنات والتنمر، وأحياناً للحسد والحقد من قبل متابعيهم.


الكثير من التعليقات تكون زائفة وغير صادقة بالمشاعر، هذه الفيديوهات بالتأكيد لا تفيد المتابع بشيء ولا تزيد من مهاراته الحياتية وترتقي بتفكيره، بل بالعكس تبث الاكتئاب لمجرد فكرة عدم تكافؤ الفرص والإحساس بظلم اجتماعي لعدم حصول المشاهد على أدنى مستلزمات الحياة، بالمقابل هناك من يفتخر أو حتى يبزر ويسرف باستخفاف.


الكثير من تلك الحفلات الطنانة تكون فقط للمظاهر وحب السيطرة على المشهد، لإظهار مدى الكرم والغنى والرفاهية التي ينعم بها مغذياً بذلك النرجسية الطاغية عليه، من خلال استشفاف إعجاب واستحسان الآخرين لما يملكونه فلا يشعر بها إلا بهذه الطريقة، لا يراها إلا في أعين من حوله وتعليقات الغرباء. والأظرف أن هناك مشاجرات عائلية مهولة وخصومات طاحنة بين الأصدقاء إذا لم ينل فيديو إعجابهم، بل الأسوأ، إذا لم يقوموا بالتعليق مع معرفة تامة بمشاهدتهم للفيديو، فيبدأ الحراك النفسي والتساؤل (لماذا لم تعلق أو تشارك أو حتى تضغط إعجاباً؟) وتنهال التحليلات السلبية والاتهامات التعسفية.


الشهرة الحديثة والسريعة التي يبحث الكثيرون عنها ظاهرة قصيرة المدى ليست كالشهرة في السابق لعدد كبير من الأبطال والأدباء الذين مازالت كلماتهم وصورهم تتناقل عبر الأجيال حتى الآن.. تلك الومضة السريعة التي على الأغلب تكون بلا معنى إلا أنها تحدث انتشاراً واسعاً وتحتلّ المنصات الاجتماعية وتفتقد الديمومة لصاحبه، فهو في سباق شاق مستمر متجدد يحتاج دوما إلى عامل الإثارة والجذب. فما الذي يجعل هؤلاء المتعطشون للشهرة يصلون إلى مبتغاهم بالحصول على نسب عالية من التعليقات والمشاركات؟ هل المشاهدون تندت الأهواء الفكرية لهم وتغيرت اختياراتهم للسماح لهذا المخلوق المهرج بالتصدر في المنصات الاجتماعية والتربع على صفحاتهم وصفحات أولادهم الإلكترونية المفضلة؟


المنصّات الاجتماعية تعتبر سلاحاً ذا حدين، وذلك لسهولة تداولها وانتشارها كالنار في الهشيم، مجتاحة جميع القارات، ناهيك عن الفئات العمرية المختلفة التي تستخدمها، والتي بشكل حتمي تؤثر بتربية وتنشئة جيل يجد نفسه أمام مشهد خادش للحياء أو لقطة فكاهية بتقليد سمج أو مقطع عنصري اتجاه عرق ما أو دين معين أو نقد سلبي لشخصية ما... وتطول قائمة المحاولات للوصول إلى الشهرة السريعة، فهل تستحق كل هذا العناء؟ أعداد كبيرة خسرت حياتها في محاولة للوصول إلى هذا الجنون العطش واللامتناهي. أليس من المفروض أن يكون هناك رقابة عائلية وانتقاء مفيد لما تستقبله عقولنا وما يترسخ في شخصياتنا مع مرور الزمن قبل الطلب بوجود رقابة على هذه المنصات لفلترة وضبط هذا التيار الجارف.


نرفت عمر


ليفانت - نرفت عمر

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!