الوضع المظلم
الجمعة ١٧ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
بيست سيلر الرواية الكردية
مها حسن

المرض بالآخر


يشبه الأمر أن أذهب إلى أمريكا، أقابل سيدات أمريكيات، وأستمع إلى قصصهن التي يترجمها لي أحدهم باللغة الكردية، لأنجز كتابي عنهن، باللغة التي أكتب بها، وهي بالتأكيد ليست الإنجليزية. هل يمكن لأحدكم أن يصدّق هذه القصة؟


هذا تقريباً ما حصل مع الكاتبة الأميركية كايل ليمون، التي جاءت إلى كوباني، وهي لا تعرف اللغة الكردية، لتلتقي بمقاتلات كرديات، وتؤلف كتابها "بنات كوباني"، الذي يعدّ من أهم الكتب الصادرة هذا العام، والمُدرج في لوائح " البيست سيلر".


أين المشكلة إذن؟ ألا يوجد لدينا كتّاب أو كاتبات كرد، أم أنّ الموضوع يتعلّق بعدم احترامنا لأنفسنا وعدم إيماننا بقدراتنا، إذ ما نزال أسرى نظرية تفوّق الغرب؟ أم أنّه فعلاً، هناك تفوق ثقافي لدى الغرب، ففي حال الكتاب كان قد صدر باللغة الكردية، لما انتبه إليه أحد؟


هل إذا قررت أنا، ككاتبة من هذه المنطقة، الذهاب إلى كوباني، سأحظى بالرعاية والحماية الأمنية والتسهيلات التي حصلت عليها كايل ليمون؟ عدا حريتها وعدم تدخل أحد في نصّها؟ أم أنّ مزمار الحي لا يطرب أبداً؟


بالتأكيد، إنّ ذهابي إلى كوباني أو أية بقعة أخرى من "روجافا" للكتابة من الأرض التي أنتمي إليها، هو أمر يشبه الفانتازيا، إذ لن أحلم بالحصول على التسهيلات، إنما على العكس، سوف تنبع أمامي معضلات لم أتوقعها من قبل، أهمها هي ضرورة تصنيفي أيدولوجياً وتحليل جيناتي السياسية حتى سابع جد.


لهذا، فإنّ كاتبة مثلي، سوف تشعر بالغيرة من كايل ليمون، لأنها تمكنت من الذهاب إلى كوباني، وحصلت على تسهيلات كثيرة، وأهمها الحفاظ على حريتها الفكرية في تأليف كتابها.


يحق لي، كما يحق لغيري من الكتّاب الكرد، سواء الذين يكتبون بالعربية، مثلي، أو بالكردية، أن يشعروا بهذه الغيرة، ويعبروا عنها علناً، لأنّ مايحدث لنا نحن الكتاب الكرد هو العكس تماماً مما يحدث لأقراننا الغربيين، الذين تٌفتح أمامهم البيوت والقصص، بينما نتعرّض نحن للتوبيخ والتشكيك والتجاهل.


هذه الظاهرة، الانبهار بالغرب، هي حالة قديمة عبّر عنها جورج طرابيشي في كتبه "المرض بالغرب"، ولكن، وبعد الانتصارات العسكرية للكرد في السنوات الأخيرة ضد التطرّف الديني، متمثلاً بداعش، وظهور صورة المرأة الكردية خارج النمط التقليدي الذكوري، وتبوّئها لمراكز القرار، والنقاشات الحادة المفتوحة والتي تشي بمساحة لا بأس بها من الديمقراطية، تبدو حالة "المرض بالغرب" سرطاناً فكرياً ونفسياً، يجب مواجهته وتحليله، وبالتالي معالجته.


العود الأبدي


بظهور روايتي "حي الدهشة" في لائحة جائزة نجيب محفوظ، وتحدّث بعض الموقع الكردية عني ككاتبة من عفرين، تلقيت أعداداً هائلة من طلبات الصداقة في حسابي على فيسبوك، من كرد في عدة بقاع: دهوك، كركوك، هولير... وعلى الأخصّ من عفرين. حتى إنّ التعليقات التي كنت أستمتع بالتلصص عليها في الصفحات التي يرد فيها اسمي، كانت تصرّ على : كاتبة من عفرين.


كان لابد من ظهور اسمي في لائحة جائزة عربية، حتى ينتبه لي الكرد.. هذه الدائرة التي تمثّل بالنسب لي شكلاً من أشكال اللامعقول، أصابتني بفرح نادر، حيث سعادتي بانتشاري بين الكرد تعادل سعادتي بالترشّح للجائزة، بل صار أملي في الفوز، مردّه فقط لإسعاد هؤلاء الناس الطيبين الذين عاملوني كابنة معثور عليها، وقد غمروني بكلماتهم العالية.


هنا أتحدّث عن الناس الطبيعيين، العاديين، الذين لا يملكون مشاكل المجتمع الثقافي وأمراضه، ولم يكونوا قد سمعوا بي من قبل، وهاهو الأمر يحصل، عبر منابر كردية يتابعونها.


في غضون أيام قليلة، دخل عالمي الافتراضي مئات الكرد من نساء ورجال، بل وشيوخ... وكدت أبكي حين تلقيت تعليقاً من رجل مسن: نحن نفتخر بك! هذه العبارة التي ردّتني إلى منابعي الأولى، حيث رجال قريتي في "ماتنلي" المسنين، والسيدات المسنات، اللواتي تظهرن "حليمة" جدتي التي أتحدث عنها في كل منبر عربي أو غربي. حليمة ملهمتي الأولى، ومُطلقتي في عالم السرد، حتى إنّني أقترب من تصريح فلوبير "مدام بوفاري هي أنا" لأقول: أنا حليمة، لكن بنسخة عربية معاصرة. حيث كانت حليمة مرضعتي الفكرية، لا تعرف العربية، وحيث أنا، جئت أترجم عوالمها الكردية إلى العربية.


لهذا، فإنّ ذكر المعلقين في الفضاء الافتراضي لعبارة: ابنة عفرين، بل من يعرفني أكثر يقول: ابنة ماتينا، كان بمثابة صعودي في آلة الزمن، لأنطلق إلى البدء، حيث هويتي الطازجة العالقة هناك، في عفرين، في ماتينا.


إلا أنّ هذا لن يدوم، لأنّ الترشيح للجائزة هو أمر عارض ومؤقت، سينتهي خلال أيام، وسوف ينساني هؤلاء البشر الطيبون، وسأعود لمعضلات المجتمع الثقافي الكردي، الذي يعاني من قلة تقدير مبدعيه، والاحتفاء بالآخر، وربما الاحتفاء بمبدعيه، شريطة الاعتراف بهم من قبل هذا الآخر.



مها حسن


ليفانت - مها حسن


 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!