الوضع المظلم
الأحد ٢٢ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • “براري” موفق مسعود بين حضور الحب واستخدام الحيوانات في القصص

“براري” موفق مسعود بين حضور الحب واستخدام الحيوانات في القصص
بسام سفر

فضاءات القصّ في “براري” موفق مسعود الصادرة عن دار ظمأ في السويداء، سوريا في العام 2020، هي انفتاح واسع على زمن ماض، كالزمن التخيلي الذي يتّسع بناءه في عالم القصة القصيرة، ويستغرق وقتاً في حاضر زمن القص، وقبل التوغّل في فضاءات قصص موفق مسعود لا بدّ من القول إنّ هذه الفضاءات لا يحدّها مكان، ولا يقف في سردها زمان، وإنّما هي حياة متكاملة بين دفتي كتاب رسم غلافه الفنان “يوسف عبدلكي”.


الحب في القصص:


يبدأ الحب بقصة “الأطفال الأشقياء” التي يرصد فيها علاقة حب طفل لرجل الثلج “في ذلك العصر الشتائي مع رجل الثلج أحاطت وجنتيه بكفيها الصغيرتين، ولحفت أنفاسها وجهه لتطبع على فمه قبلة طويلة وتهرب إلى البيت”.


ومع أنسنة رجل الثلج تظهر أهمية الحب “أحسّ فجأة أنّ قلباً بدأ ينبض في صدره، واشتمّ رائحة أنفاس تلك الطفلة التي على فمه المحفور على شكل موزه، وتوهجت حبتا الكستناء”.


فبدأ يرى العالم من حوله “في الليل يذوب رجل الثلج رغم محاولاته الجاهدة واللاهثة في الحركة، وكلما شعر بالإنهاك اضطربت أنفاسه من وطأة الحنين، وفي صباح اليوم التالي نهضت الطفلة من فراشها كعاشقة ركضت مسرعة إلى الخارج، كانت الفزاعة تقف بشموخ من أراد الحياة، بحثت عن رجل الثلج فلم تجد منه سوى حبتي كستناء على بساط الثلج الأبيض”.


 


 


أما الحب في “حكاية مسمارية”، يتم بعد عودة المطرود من بلدة في اسم آخر عندما يتبع صبية من أهل المنطقة، فتقول له “أشتهيك أيها الغريب.. ألقيت بذاكرتي على رمال الشاطئ وخطفتها إلى جسدي، كنت أتشمم في عريها روائح أوغاريت الحبيبة، وحين انخرطنا معاً في أنشودة جهنمية.. أحسست بالمسمار الثالث يخترق جسدينا معاً، كان ثمّة جبلة في المكان من حولنا.. وحده الزبد الأبيض.. قطف توهج أصابع أقدامنا العارية وغاب في مياه البحر.. مرة وإلى الأبد”.


بينما الحب في قصة “شتاء باكر” يأتي عندما يحلّ أستاذ من العاصمة ضيفاً على بيت عبد الرحمن ونعيمة ويقيم علاقة حب معها ويصرّح لها بالحب في إحدى الليالي وشقت الباب، كان يقف أمامها بلحمه ودمه..أحبك يا نعيمة”.


ويغادران القرية “رجل بشعر أجعد وعينين مشتعلتين، وصبية تحمل صرّة من القماش على ظهرها، يركضان تحت المطر بمحاذاة الطريق الذي يصل القرية بأوتستراد العاصمة”.


أما في قصة “الغريق السومري” بالمقطوعة (1).. نجد الوصف التالي في الحب “ما أحلاكِ يا حبيبتي يا غزالتي الشاردة.. أعطني فمك يا حبيبتي لوز نهديك أعطني (…) في مساءات سومر تحلو الحياة حيث يتبادل الرجال والنساء صيدهم وجنيهم، من بحوزته البيض يعطي من بحوزته الحبوب ويأخذ حاجته.. في سومر يعم السلام.. في سومر.. الحياة حلوة”.


وفي حكاية الشيخ صالح بقصة “زواج النظر” سرد عشقي لتفاصيل صوفيّة إيمانيّة دينيّة عن علاقة صالح بالخالق وابتعاده عن النساء والحب والزواج الذي يهرب منه إلى مكان آخر هو العمل، لكن زوجته الشابة ثلجة في منتصف كل شهر عندما يكتمل القمر بدراً تقود “ذئبها النهم الذي يعيش مع قطعان الوحوش في البراري لتحضنه سراً وتهمس في أذنه بعبارات الوله والشوق، وكانت تسأله في غمرة هذيانات جسدها الملتهب المحموم عن الله والكائنات التي ترافقه في ظلام الوعور.. كان صالح يحاول أن يستوضح صورة الله في غمرة انغماسه في الشعاب السرية للرغبة الملتهبة والعصية على الفهم، وبينما كانت يده تتسلل عبر ثيابها وتتحسس أصابعه الراحلة في ضياعها الخاص، طريقها إلى تلك الغابة الرطبة، حيث الأعشاب السحرية ليقبض على الجوهرة الإلهية، ويهمس بصوته الأجش الذي يشبه همهمة الوحوش البرية..- إنني أراه..”.


ويظهر دور المرأة في قصص الحب كما في “سلالة الكلمات” من خلال شخصية زينة، وهي عربية من أصل سوري تعيش في البرازيل، وقبل أن تأكله وقد أصبح في يديها كقطعة من الرغوة، قالت له بحزم: ليس هنا. فسألها لاهثاً من وطأة العطش: أين؟! لم يكن جوابها صاعقاً بل كأنّه الجواب الوحيد المقبول، قالت وهي تمرر شفتيها بموازاة فمه وتسحب زفيره إلى رئتيها: في سوريا هناك في وعور قريتي الصغيرة”.


إنّ تنوع قصص وحكايا وفضاءات الحب بين شخصيات القصص, قصص “براري” أعطى هذه الشخصيات بعداً وعمقاً إنسانياً قابلاً للسرد والقصّ، كما في الحياة، فالحب وشخصياته لا يمكن تنميطها ووضعها في قالب واحد، لذلك نجد في العديد من قصص “براري” شخصيات خارجة عن المألوف، كما في شخصية صالح “زواج النظر”، وشخصية زينة في قصة “سلالة الكلمات” عندها طقس الحب والعشق لا يضرب عمقه في الشخصية إلى حدّ “الهلوسة” عند صالح، وفرح العودة إلى البلاد كما (زينة) لكي يكتمل عشقها وحبها في طقس سوري خاص.


حضور الحيوان في القصص:


يستخدم القاص والمسرحي “موفق مسعود” فضاءات القرية والريف السوري لتحقيق حضور المدى المكاني الواسع والكبير، ففي قصة “شتاء مبكر” نجد استخدام إحدى صفات الطيور وتوظيفها في سياق درامي، إذ يقول: (“لا تخافي.. سنطير معاً.. مثل العصافير ذات صباح ماطر”.

ابتسمت بهدوء عميق، ثم قطبت حاجبيها، وكأنّها (زعلت):

“-لا أحب العصافير.. أجنحتها ضعيفة.

– إذاً كيف سنحلّق معاً؟.. قولي أنت…

اكتست علائم المكر وجهه، وسكنت شفتيها ابتسامة خلابة كما يفعل الحمام”.


ويوظّف القاص مسعود فضاء الطبيعة ليوضّح طبيعة الشيخ صالح من خلال قوله: “كان الليل مثقلاً بصمت رهيب، وحدها أصوات الضباع وبنات آوى كانت تخترق عزلته في مزرعة التفاح الجاثمة على سفح الجبل، واستطاعت الحيوانات المنتشرة في وعور الجبل أن تميز تلك الأنّات الطويلة للشيخ صالح في لحظات عذابه الفظيعة”.


ولتعميق حالة الشيخ صالح كتب عنه “إنّه صديق الضباع والذئاب، وإنّها لا تؤذيه أبداً.. وتناثرت حوله الشائعات، فمنهم من قال بأنّه يداوي الحيوانات الجريحة ويساعد إناث الذئاب على الولادة، وتجرّأ بعضهم على القول بأنّه يتحدّث مع الأشجار والصخور ويسمع بأذنه حقائق الوجود التي تحفظ بها الأشجار المعمرة والصخور الأزلية، ويصغي إلى حكايات الطيور المهاجرة والنمل الذي يعيش في باطن الأرض منذ ملايين السنين”.


أما قصة “نزق الوعور” نجد مساحة حضور الضباع مفتوحة “للضباع حرية التنزه والتفرد بسيادة الوعور.. الضباع الرمادية والسوداء.. السادة الأنذال في وعور شاسعة.. للبشر الذين عاقبتهم الآلهة باستيطان الوعور، حرية البحث عن ذواتهم المفقودة والضياع في أفواه الوعور النزقة”.


ويعزّز مسعود من حضور الحيوانات في ذات القصة “كانت ثعابين الدخان البيضاء ترقص صاعدة إلى الفضاء، من مداخن البيوت الحجرية (…) وفي لحظة ولوج القطيع ساحة البلدة قبيل الغروب، خرج الراعي عن هدوئه وهرهر (هرهر تش.. هرتش.. هرهر تش).. تراكض القطيع متفرقاً من الساحة إلى الطرق الفرعية، وكانت الشياه التي تعرف طريقها جيداً، تهرول إلى بيوت أصحابها، قبيل حلول العتمة الموحشة التي تحمل معها روائح الوحوش والضباع المفترسة، كل الشياه التي يسارع الأهالي إلى عدّها، كانت كاملة، عدا عنزة سوداء بلون الليل، وغنمة صهباء، عدت هيلا العنزات للمرة الثالثة قبل أن تتخذ قراراً داخلياً بإعلان الفجيعة (يا ويلي يا حمود.. ضاعت العنزة)”.


وفي قصة “بيوض زرقاء سماوية” يكتب عن لصوص السنابل والقمح” يسيرون في خط متعرّج وطويل إلى مكان مجهول، وكل نملة تحمل في فكّها حبة من القمح، كان لا بد من التصرف السريع، المسدس لن ينفع، حمل معولاً ومشى خلف اللصوص متعقباً أثرهم بحرفية عالية، وحين وصل إلى وكر النمل الذي بدا مسرحاً لآلاف منها، الخارجون من الثقوب والداخلون إليها، محملون بحبات محصوله الثمين، وبكل ما تعلمه من ثورية ومبادئ عظيمة في حزبه العظيم, هوى على وكر النمل بمعوله، كان يحطم الأوكار بوحشية”.


إنّ التوظيف الواضح والجلي لحضور الحيوانات في قصص” براري” لموفق مسعود على سعة أفق هذه القصص بحيث تشمل قضايا متعددة ومتنوعة تزيد من إمكانية رصد كل جوانب الحياة الريفية والجبلية، بحيث تصل الفكرة إلى قارئ هذه القصص، ومن الملفت للانتباه الحضور والتوظيف الجيد “للضباع” في مناحي متعددة للقصص. فالكتابة القصصية التي تسرد المشاعر والحياة اليومية، تنهض بالتعبير الحي عن كل الراهن، فهي ليست نقلاً تقنياً يركب المعاش، وإنما يعيد بناءه وفق تركيب قواعدي، وقوانين لغوية، بعيداً عن اللغو والثرثرة والمراكمة اللفظية الزخرفية، بل هو ما يمارسه الناس في العلاقات فيما بينهم التي لها طابع التعبيري عما يجول في المجتمع.


ليفانت – بسام سفر

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!