-
"بدنا نعيش"، بين جداري الرعب والوهم
بين عامي 2011 و2020 مرت تسع سنوات، ومن كان طفلاً بالعاشرة بات شاباً اليوم، طالب جامعي، مطلوب للخدمة، على وجه تخرج، متخرج من جامعته بلا فرصة عمل،والمتاح الوحيد أمامهم موضوعياً أن يرحلوا "يطفشو" برا البلد! والقصة اليوم كما كانت ولازالت، حكاية بلد.
زمانهم لا كما زماننا، أدواتهم وطريقتهم وتفكيرهم مختلفة عنا، نحن جيل الكارثة السورية الكبرى، ومن هنا تبدأ قصة جديدة في سورية عنوانها: "بدنا نعيش"، أو هكذا اختار جيل من الشباب عنوان بواكير حملته اليوم في السويداء، والتي نرجو لها الاستمرار بأمان وسلامة والمتابعة والتزايد لتعم كل المحافظات السورية، لشق جدران الصمت المطبق والرعب الجاثم، ذلك الذي ترسخ في بنى المجتمع طوال الأعوام التي مرت من قتل وتهجير وتدمير لمعظم المدن السورية.
وحيث يبدو وجه الحملة مطلبية تتعلق بغلاء المعيشة وفقدان الليرة السورية قيمتها وعدم قدرة المواطن على تلبية أولويات الحياة، وإصرار السلطة على "أن البلد بخير، والاقتصاد السوري أفضل بخمسين مرة مما كان عليه 2011" حسبما رددت مستشارة الرئاسة في تصريحاتها الصلفة ذاتها التي بدأت بها بال 2011، حيث لا يمكن أن يعترف أصحاب السلطة هذه بالواقع ولا بآلامه ولا بما يعتلج في صدور الناس من قهر وغضب، ولا يمكن لهم تصور حراكاً خارج ارادتهم أو ادارتهم؛ بل، ومؤكد أنهم مستفيدون كلية مالياً من أزمات الاقتصاد هذه بطرقهم غير المشروعة قانوناً والمشرعنة لهم سلطة وقوة ونفوذ! تأتي حملة "بدنا نعيش" لتدق جرس الإنذار من جديد، والتي بالمبدأ لا يختلف محللين اقتصاديين أو سياسيين على أن السلطة وأجهزة الدولة المرعية من قبلها لا تملك أن تقدم شيئاً لها، ولا أن تغير بالواقع الاقتصادي والمعاشي للناس! وان حاولت هذه المرة العمل على امتصاص نقمة الشباب وغضبهم بطرق عدة كتقليص عدد ساعات التقنين الكهربائي أو زيادة عدد صهاريج المازوت والبنزين للمحافظة، إلا أنها لا تملك حلولاً جذرية لتردي الحالة المعاشية التي باتت كارثية على كل من بقي في سورية لليوم، سوى أولئك القلة من تجار الحرب والسياسة والمخدرات وزعامات الميليشيات وأعوانهم... هذا أن فرضنا جدلاً أن هناك إرادة لتقديم ولو شبهة حل لانهيارات سوق العمل والتدهور الاقتصادي، وبالضرورة ستصطدم الحملة بعدم تحقيق مطالبها، فهل هذا كاف لتتوقف الحملة عند شرط تعجيزي من الصعب التغيير فيه؟
جدران الرعب القاتلة التي بنيت في أتون الحرب الكارثية في سورية، والتي وان تعددت تداخلاتها الإقليمية والدولية حتى باتت سورية ساحة حرب دولية كثيفة تلتزم كل الفرقاء فيها بتجنب الصدام المباشر بينها، باستثناء الصدام مع الشعب السوري وترحيله وتهجيره! جدران الرعب هذه أتت بالمبدأ نتيجة للعنف المضاعف الذي باشرته السلطة وأجهزتها ضد شباب عزل سلميين، ما جعل أي حراك سلمي أو مطلبي يحمل في طيات ذاكرته مخزون من الرعب والخوف بملاقاة ذات المصير لباقي الشباب السوري، وهذا ما يدركه شباب الحملة اليوم بعمق، ليعملوا على تجنبه بكل الطرق الممكنة، مصرين على حراكهم الشبابي بلا اصطفاف سياسي أو شعارات ذات سقوف، كما يحلو للبعض وصفها، عالية أو واطية! كما ويدركوا جيداً استحالة أن تستجيب السلطة لمطالبهم حتى ولو بالقليل منها! لكن تبدو التجربة اللبنانية مثال حي تستقي منه الأجيال الشابة طرق وأساليب جديدة مهما كانت العراقيل والمخاوف.
لست بوارد التذكير بما سبق من حراك السويداء السلمي السابق منذ بدايات 2011، والذي أصابته الاقتطاعات الزمنية والاختناقات المرحلية، ولا الربط بين حراك اليوم وسابقه، كما لست بوارد الفصل بينهما، لكن ميزة هذا الحراك اليوم أنه يظهر في أصعب لحظات سورية السياسية وتعقيدات ملفاتها، وبأكثر مراحل الخوف والرعب التي يمر بها جيل الشباب، خاصة وان بوابات الخطف المحلي والقتل المجاني سائدة في كل أرجاء المحافظة بلا حسيب أو رقيب، هذا عدا ان سلطة النظام اليوم تعيش وهم انتصاراتها العسكرية في معظم الأرض السورية، وتتعشم تتويجه بنصر سياسي كبير! ليثبت الواقع والتاريخ للمرة الألف، أن المجتمعات لا تحكم بالقوة بل بالسياسة في أقل صفاتها الممكنة وهي إدارة الموارد لا نهبها واستثمارها لصالح القلة القليلة.
وهم الانتصارات هذه وسياسة الرعب ومجرفة تفريغ البلاد من سكانها أتت اليوم عبر رسائل التهديد والوعيد لجيل الشباب هذا، كتلك التي بثها أحمد شلاش أو علي مخلوف وغيرهم من لم تظهر بواطنه بعد، وحقيقة لا تختلف أبداً رسائلهم عما تفوه به "معارض" سوري ككمال اللبواني الذي اعتبر الحملة حملة عبيد وجوع لا ترتقي لمصاف الثورة! ولا أجد خلافاً أو اختلافاً بين منابع حديث هذا عن هؤلاء سوى بالمواقع المفترضة سلطة ومعارضة، بينما في الجذر هو ذات الموقع المتعجرف والصلف لعقلية القوة العليّة وفرض الإرادة القهرية والتصنيفية على الرأي المختلف، وبالتالي كل من يختلف معك فيها وجب افناؤه حياة وتكفيراً أو دفنه تحت الأنقاض!
ربما لا احمل الكثير من التفاؤل لنجاح الحملة هذه، وربما ينتابني الخوف من تكرار المشاهد الدموية التي تعصف بذهننا لليوم، لكن ومكرراً، ويبدو المشهد السوري على طول مسيرته وتكرار مشاهده، يجوز فيه التكرار في الوصف والأرضية الأولى التي تفند مرجعيته، تلك التي وصفها فرانكو مورتيني في ديالكتيك الخوف ذات يوم بأنها ((انذار بنهاية ثقافة القرن التاسع عشر الثقافية، فلم تكن ولادة أدب الرعب إلا من رعب مجتمع منقسم، ومن الرغبة في مداواته على وجه التحديد, وهذا هو السبب في أن دراكولا و فرنكنشتين لا يظهران معاً، إلا في حالات استثنائية ونادرة، وإلا لبلغ التهديد والرعب حدا رهيباً، فهذا الأدب وقد أحدث الرعب فلابد أيضا ان يبدده ويحدث السلام))، وما خرق جداري الرعب والوهم اليوم على أيدي جيل من الشباب غض التجربة والعمر يريد أن يعيش بكرامة، سوى بوابة تتوسع وتثق بذاتها وبقدرتها على الاستمرار، لتضع مقولتي السلام والعيش الكريم عنواناً عريضاً لها في مواجهة الرعب والخوف ووهم سطوة القوة العسكرية، فهل يكتب لها الحياة والاستمرار الآمن دون المزيد من القتل والموت المجاني، وبالضرورة تدوير آلة الرعب إلى آخر من تبقى في هذا البلد؟
الباحث والكاتب السوري - جمال الشوفي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!