الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
بدلة رقص شرقي لجسد هزيل
بدلة رقص شرقي لجسد هزيل

من أوائل من امتهنّ مهنة الرقص الشرقى هي شفيقة القبطية التي ولدت في عام 1851 فى حي شبرا وقد سبقتها بالبداية معلمتها الراقصة شوق، وقد بدأت القبطية فن الرقص في الموالد لتحصل على قوت يومها، تدربت عند الراقصة شوق وسرعان ما أصبح اسمها الأول بين راقصات مصر بعد وفاة الراقصة شوق، وافتتحت شفيقة ملهاها الليلي الذي أطلقَت عليه اسم ألف ليلة فى القاهرة، وآخرهن في ذاكرتي هي الراقصة ليلى التي قابلتها بعد أن افتتحت مرقصها في منزل زوجها وقد صفعتني حين قالت: "لم تكن لائقة بي لكن حماتي اشترتها وشددت على أهمية ارتدائي لبدلة الرقص الشرقي رغم أني لا أتقنه في ليلتي الأولى مع ابنها". قالتها وهي تفيض من نهر أنوثتها كلاماً لو تواجد مُسطّح أرضي أمامها لفاضَ منها.

في كل مرة أتقابل مع نساء من مقترب عمر العشرينات والثلاثينات أتوقف لهول الصدمة التي تعلو ملامح وجهي حين أدهش من تفاصيل قصصهم وكأنّ النساء قد حُكم عليهن بالإعدام البطيء إن صدق التعبير، فهن يمتن عند نهاية كل نون نسوة ترتبط بأحداث حياتهن.

ليلى هي امرأة تكره ولا تستلطف الرقص بالعموم، عاشت طفولتها بحلقة بيت بيوت وعفريتة مع الصبية والفتيات بالحارة، لم ترَ بدلة رقص حقيقة بل فقط من خلف شاشات التلفاز لمجمل الأفلام المصرية وغيرها ولكن لم تلفتها ولم تثر اهتمامها، وشاءت الدنيا أن تنقلب معها وتلعب دور الراقصة المطاعة لزوجها حسبما أرادت والدته أن تراها فهي الأدرى بمصلحة ابنها وما تحتاجه رجولته قبل أن ينام بليلته الأولى معها لذلك فرضت عليها حين كانوا يتسوقون لتجهيزها بأن تضم سلسلة بدلات رقص شرقية بألوان زاهية مختلفة ضمن خزانتها كي يستمتع زوجها.

زواج الأقارب ضحيته صغار السن

لطالما فكرة الزواج من أحد أقارب الأهل وبالأخص من ابن العم، لكونه من ذات فصيلة الدم وذات الكنية وابن أخ الأب أولى وأوجب، فعلى قولة المتل: (اللي ما أخد من ملتو بيموت بعلتو).

أصبحت ليلى في عمر البلوغ وبدأت علامات ازدياد هرمونات الأستروجين في جسدها بالظهور، من بروز للثديين إلى حبوب الوجه والأهم من ذلك مرور الدورة الشهرية بجسدها وتلك جميعها علامات بأنها أصبحت على أتمِّ وجه من وجوه المرأة المطلوبة والتي يطمح للزواج منها أيُّ رجلٍ سواء من عائلتها أم من الأقرب لها صلةً فهم أولى بالمعروف دائماً، فيجب أن يتم الستر عليها بتغطية معالم أنوثتها وأن تتخلف عن المدرسة لعدم ضرورة استكمال تعليمها فهي إلى منزلها المستقبلي ستنظف وتطبخ وتجلي الصحون، ترتب وتستقبل الضيوف لتخدم طاعة زوجها.

لقد أصبح على ليلى ألا تنزل بقدماها إلى الحارة لتلعب مع رفقاها ولا يجب أن تلقي التحية على الصبية منهم لأنها محرمة عليهم وتثير النشوة بأجسادهم لذا عليها تحاشيهم فهي في النهاية ستصبح امرأة.

أنين المونولوج الداخلي لشعور ليلى

بعد أن تزوجت لم أشعر بنفسي وبالكاد أتذكر من أنا فكيف كنت وكيف أصبحت لا أذكر، تغيرت أفكاري كثيراً ولكنّي أتخيل كيفَ كان يبدو صراخي حينما يشدُ وجهي تعب انغمار حنجرتي بالدمع فتبدأ معركة احتكاك جلدي بالدمع وأنتصر دوماً بكبته، لذلك أنا امتلكُ ندوباً وهذه الندوب لا يلمسها زوجي لأنه فقط يحاول ممارسة رجولته معي بالسرير ليرضي والدته ويُنجب خليفته، وعن كيف أشعر بالسرير معه بأني فشلت أمام طفولتي وخذلتها باكراً.

لقد أصبحت امرأة حقاً كما يقول مجتمعي ووالدة زوجي، أمارس نشوتي وأطبخ لتغذية جسدي وأنظف بقايا طفولتي بتنظيف السرير وتبديل شراشفه فتموت طفولتي يوماً بعد يوم، حتى أني لم أكن أدري ما معنى هذا المصطلح أن أكون امرأة، لكن والدة زوجي تناديني به دوماً، ولو كانت أمي على قيد الحياة لساهمت بأن أبقى طفلة إلى أطول مدة، أنا متأكدة من ذلك.

لأنّها مثلي، تزوجت من رجل يكبرها سناً ويقربها، وأنا كنت أستمع لتنهدَ روحها حين تحدثني عن مرارة خوفها وضعفها أمام العادات والتقاليد التي أجبرتها على الخضوع، كانت أمي تبكي من قلة النوم وكسر الخاطر، ولو لم أصبح امرأة لوددت أن تتبلور فكرة التحاقي بالمدرسة واستمرار طفولتي هناك في الشارع مع رفاقي مرتدية لباساً مريحاً وأن أكمل تعليمي لأصبح طبيبة أطفال.

هذا حلمي وليس بدلة الرقص الشرقية تلك التي لا أفقه عنها شيئاً، لقد أجبرتني والدة زوجي على اقتنائها لأن ابنها سوف يستمتع وأنه يجب أن أتمايل أمامه في كل الاتجاهات التي تصيب قلبه ونشوته، فوالدة زوجي حريصة على سعادته لأنه ابنها البكر. 

فكنت مجبرة أن أتعلم الرقص وأن أرتدي له جميع الألوان، أنا التي فضلت دائماً الأسود بجميع درجاته.

وأما ليلتي الأولى معه فلم تكن الأولى بل الأخيرة، فهو لم يستمتع معي ولم يتمكن من المرور لجوف أنوثتي حتى أتحول من طفلة تلعب في حارتها إلى امرأة تنتظر عودة زوجها لتخبره بأنها حاملٌ من طفله، بقيتُ هكذا دائماً في المنتصف من كل شيء لا أعود للخلف ولا أتقدم للأمام.

أنا امرأة لا تجيدُ البكاء كثيراً لكنني أتخيل كيفَ يبدو صراخ زوجي بداخله وهو يشعر بالخذلان من رجولته أمامي فيستحضرُ كل الأحاديث التي تبررُ بكل ليلة ننام بها معاً كيف أنه لا يستطيع. والدته كانت تستمرُ يومياً بالسؤال ذاته: ألستِ حاملاً؟

فأصمت وأتحمّل كلامها المؤذي الذي يُحمّلني مسؤولية عدم حصولهم على الحفيد المنتظر، فأنظر لزوجي والصمت يعتلي سقفَ حلقي المتألم من كوني لا أقدر أن أفضي عن سر فشله وضعفه الجنسي لكي يصبح أباً كما تمنينا معاً.

حاولت إقناعه بأن نذهب معاً إلى الطبيب المختصّ لكن رفض، لم يتقبل الفكرة أبداً، ثم حاولت معه بأن يتحدث لصديق أو قريب عن مشكلته، لربما يسعفه أحدهم بكلام أو بطريقة أو حل أو حتى توجيه لحلٍ ما لأنني كنت متأكدة بأن لمشكلته حلاً وعلاجاً لكنه استمر برفضه ولكن بعد فترة أخبرني بأنه سيخبر والدته بأن تتوقف عن إحراجي بأسئلتها، وبأننا لا نريد إنجاب طفل حتى تتحسن أوضاعنا المادية علّها تصمت وتتوقف لفترة عن إزعاجي.

لقد أرضاني شعوره بالخوف علّي من لسان والدته وعن تعاطفه لفكرة أني لم أحرجه بل حافظت على سره، لقد جعل الحب مني امرأة وليس الجنس ذاك الذي لم يحصل بشكله المثالي معنا.

سيناريو أخير لمرقصَ ليلى

إنّ العديد من النساء التي تترك ظلالها أينما رحلت كانت موجودة بداخل جسد ليلى التي قابلتها وتحدثت معها عن وجعها الصامت والتي انتظرت لتنطقه وتلفظه أن تأتيها غريبةٌ مثلي، لها حشرية المعرفة وتوثيق أحداث لقصصُ كثيراتٍ تعاني ذات معاناتها، ليلى أفضت عن داخلها وتكلمت عن أعمق شعورها بتجربة الزواج المجبر المبكر وارتداء لباس لا يستهويها والرقص رغم كرهها إضافة لضعف زوجها الجنسي وتقديرها لرجولته، الذي حول قصتهم إلى حب مشترك نيابة عن سرير مشترك.

ليلى امرأة لا تمتلكُ من الأمومةِ رحمها بل قلبين، قلبها وقلب زوجها الذي أحبته دون أن تنجب منه الحكاية الشعبية المعتادة في مجتمعنا عن فتاة جميلة جداً انتقلت إلى رحمة زوجها لتصبح جناحاً يحميه من مجتمعه الذي يرفض تقبل أنه مريض جنسياً لا قدرة لديه ولا قوة لمواجهة ضعفه وذهابه للطبيب خوفاً من نظراتِ المجتمع إليه ونعته بصفة لا تمت له، عن رجل قررَ أن يبقى عاجزاً وطفلاً بحضنُ زوجته التي بقيت أيضاً طفلة بنظرِ نفسها وبحضور الحبِ الدائم عليهما معاً دون رقيب وقريب ودون فحولته وبدلات الرقص الشرقي.

لم تنتهِ الحكاية إلا بعد أن حرقوا بدلة الرقص الشرقي تلك، التي لا يريدُ زوجها أن يشاهدها بعد الآن في خزانة ملابسهما المشتركة، بل يريد أن يُرسل ليلى إلى مدرستها لتكملَ تعليمها وتحقق حلمها الذي سيعوض حرمانه له من حقها بالأمومةِ لتحتضن كل أطفال النساء اللواتي سيأتين إليها حاملين أطفالهم لعنايتها بهم بعد أن تصبح طبيبة أطفال، فهي الأحق في نظره بأن تستمر حياتها من جديد عوضاً عن تلك النقطة لبداية محاولاته بأن يجعلها امرأه تمتعه لتنجب منه بقية رجولته حسب عاداته المتوارثة والتي رفضها بسبب الحب.

لقد كان لوقع خبرها الأخير لي كونها عادت لمدرستها رغم كل الانتقادات والمشاكل التي وجّهت أصابع الاتهام على زوجها الذي وصِف بنظرِ أقاربه وأهله على أنه ليس برجل يُفتخر به ضمن مجالسهم لأنه سمح لزوجته بالخروج والتعلم والاختلاط مع الناس، وكيف أنه لم يفكر بإنجاب طفلٍ يحمل اسمه منها.. يا للعار.

لقد سقطت مني وتهشمت آلة التسجيلِ التي أحملها على الأرض كما توقف تسجيل كلام ليلى الأخير معي لتتحول مقابلتي معها إلى احتضان عميق يشملُ جميعَ تفاصيل حكايتها وكأنها قضيتي الأولى.

سنشهد بمر الزمن على الكثير من القصص عن زواج الأقارب وزواج القواصر وعن الرغبات المقيتة للزوج وعن متطلبات والدة الزوج وكيف إطاعتها بمثابة فرض وعن العقم لدى النساء والرجال وجميعها تختفي تحب قانون المجتمع الشرقي الذي ينص على الكتمان والسرية والخضوع.

ولكن سيبقى هناك الكثير من ليلى ممن سيتحدثون داخلياً لكثير من الوقت، حتى يفيض بهم الألم فينطق صوتهم صارخاً، ليبوحَ بأدق التفاصيل وأعمقِ الخطايا التي يمارسها المجتمع بعاداته وتقاليده المتزمتة، والتي يجب أن تقبل التغيير لمواكبة عصرنا الحالي بما يحمله من انفتاح وتحرر بالعقل قبل الجسد، ولكي نكون أمام عدة نساء مثل ليلى علينا أن نؤمن بحريتنا التي خلقنا معها وبها نتحرر.

ليفانت - سالي علي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!