-
الوطن وتعدّد الولاءات والانتماءات
بغياب مفهوم جامع للمواطنة انتشرت أنماط كثيرة من المفاهيم والأدبيات السياسية والاجتماعية التي تُذيب الوطن والشعب في بوتقة الدين والمذهب والعشيرة والقرية أو المدينة، حتى أصبح الولاء لإحداها يسبق الولاء للوطن الجامع والانتماء للشعب الأكبر.
وتصدّر هذا الولاء أو الانتماء للمذهب أو العشيرة قائمة الأولويات على حساب المفهوم الجامع، وقد لعبت الأحزاب الدينية والمذهبية دوراً كبيراً في تقزيم المواطنة وحصرها في طائفة بذاتها أو دين بعينه، وساندها بشكل كبير النظام العشائري وتقاليده التي ترتقي في كثير من ممارساتها على نظام الدولة ومن ثم القانون.
إن مسألة التداخل السياسي بين الدين والوطن والانتماء في بلداننا وكيفية إقحام الدين في السياسة وشؤون الدولة وكيف يحق لنظام أو حزب أو مجموعة فرض تعاليم دين بذاته على مواطني تلك الدولة متعددة المكونات الدينية والمذهبية، حولت الوطن في ظل مختلف أنواع الأنظمة الحاكمة فيه (ملكية وجمهورية وديمقراطية ودكتاتورية وإسلامية) إلى مجرد شعارات ومهرجانات وأغانٍ وأناشيد لتمجيد القائد أو الحزب أو الدين والمذهب، بعيداً عن أي مفهوم للمواطنة التي تنضوي تحتها كل هذه المسميات أو الكائنات، فهي بالتالي أصغر منها بكثير، لكنهم، أي أصحابها، عملوا لسنوات طويلة على تقزيم الوطن وإذابته في شخص دكتاتور أو في كيان حزب مهما كبر أو صغر لن يتجاوز إلا نسبة ضئيلة من مجموع أبناء وبنات الوطن.
يتساءل الكاتب والناشط المصري مدحت قلادة قائلاً: كيف لنا أن نمزج أو نخلط الدين بالنجاسة، وحينما سألته عن النجاسة قال: إن الدين قداسة والسياسة نجاسة، فكيف يحدث ذلك، متهماً السياسيين في شرقنا بالتعاون مع بعض ممن يسمون أنفسهم رجال الدين بممارسة النجاسة، ويقصد فيها التحايل والكذب، وربما التنافس غير الشريف من أجل الوصول إلى السلطة، والوصول إلى السلطة في بلداننا يستخدمون كل المعاصي من أجل الكرسي، حتى وإن كانت عبر ما يسمى بصناديق الاقتراع، وهي بذلك تبتعد كل البعد أو تتقاطع بالمطلق مع المرتكزات الأساسية للدين الذي يعتمد أسساً قيمية وروحية مقدسة لا يمكن التلاعب في ثوابتها، ومجرد إدخاله أو استخدامه في السياسة كأحزاب أو مجموعات سياسية غرضها الوصول إلى دفة الحكم هو تدمير لكيان الدولة وتحويلها إلى دكتاتورية تحرق الأخضر واليابس، وتشويه للدين ونقائه الروحي، وبالتالي فإن هذا النمط من الأنظمة التي تُقزّم الأوطان وتذيبها في شخص دكتاتور أو في كيان حزب سياسي أو مذهب ديني أو دين بذاته على حساب المواطنة التي تضم مختلف مكونات المجتمع، عرقياً وقومياً ودينياً ومذهبياً، تؤدّي إلى أنماط من القساوة التي تحدث عنها مدحت قلادة في مقاله (قساوة وطن)، تلك القساوة التي انتهت الى جرائم للإبادة الجماعية (Genocide) والتطهير العرقي (Ethnic cleansing)، كما حصل في كوردستان العراق فيما سٌمي بالأنفال وحلبجة، أو مثيلاتها التي تعرض لها الإيزيديون عبر تاريخهم هم والأرمن في كوردستان تركيا والعراق.
وفي كل هذه الجرائم تم مزج الدين بالسياسة معتمدين على فتاوى منحرفة أو إطلاق أسماء آيات قرآنية على تلك الجرائم، كما في (الأنفال) التي استخدمت كعنوان لجرائم تهجير الكورد وتغييب ما يقرب من مائتي ألف مواطن مدني ودفنهم أحياء في صحاري جنوب ووسط العراق، وكذا الحال في جرائم منظمة داعش الإرهابية ضد الإيزيديين في كارثة سنجار عام 2014، التي راح ضحيتها آلاف القتلى وتم سبي آلاف النساء والأطفال باستخدام نصوص دينية في وطن تهيمن عليه أحزاب دينية مذهبية لا تقبل الآخر وتتحمل وزر تغييب آلاف مؤلفة أخرى من الرجال والشباب دونما محاكمة لا لسبب إلا لكونهم من طائفة دينية مغايرة لهم.
أوجاعنا في الوطن بالشرق الأوسط لا حصر لها، فقد تبعثر الوطن بين الدين والمذهب والعشيرة والحزب والقرية والشيخ والدكتاتور، وأصبحت الوطنية في ظلّ هذه الكائنات مجرد أغنية أو نشيد أو شعار أجوف أو سلم لاعتلاء كراسي السلطة ليس إلا.
ليفانت – كفاح محمود كريم
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!