الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الهوية، في المرحلة الانتقالية
سميرة مبيض

هذا البناء المُستمر المُرتبط دوماً بالمكان والزمان، الهوية، كيف تُعرّف نفسك ولمَ تنتمي؟


هذا المفهوم الذي شهد تيارات عالمية متغيرة ومتبدلة عبر التاريخ، منها ما هو مستمر ومنها ما خمد وانتهى، فعلى سبيل المثال تُشكل الهوية الدينية إحدى الهويات المستمرة على المستوى العالمي منذ بداية التاريخ لغاية اليوم، بينما شهدت الهوية العرقية مرحلة صعود في القرن التاسع عشر إلى أن خمدت في منتصف العشرين، ومثلها الايديولوجيا الاستعمارية والايديولوجيا المضادة لها التي خمدت في الثلث الأخير من القرن العشرين لتظهر هويات عالمية أخرى مرتبطة بنفس الحيّز المكاني وفق الخط شمال/جنوب الذي يفصل الدول المتقدمة في الشمال عن الدول الفقيرة والتي في طور النمو في جنوب الكوكب هذه التيارات المُرتبطة بمفهوم التنمية والتي استمرت لغاية اليوم ومعها هويات حديثة مشتقة عنها كهوية المهاجرين عبر هذا الخط الجغرافي/التنموي، كما ظهرت تيارات عالمية حديثة ترتبط بالهوية السياسية أو الثقافية وغير ذلك.


وتشكل هذه المفاهيم بمجملها روابط مشتركة تجمع عدد كبير من البشر كهوية جزئية تترجم الانتماء على المستوى العالمي، وتأخذ حيزاً في الهوية الفردية والتي تتشكل بدورها من مجموعة كبيرة من العوامل المُتداخلة والديناميكية التي تتفاعل بين المستوى العالمي الواسع والمستوى الجغرافي المحلي المرتبط بالهوية المكانية والعوامل المتفرعة عنها ومنه للمستوى الأصغر المتعلق بأطر اجتماعية أو مهنية ومن ثم الأضيق للمستوى الفردي المرتبط بالدور والهدف والمبادئ، لتصنع بمجملها هوية متعددة متقاطعة الطبقات والتي تنتظم بتراتبية تحددها الظروف والعوامل المؤثرة. فهذه الأبعاد المختلفة في الهوية موجودة وإن لم تتبدى بشكل مستمر، فذلك لا يعني زوالها بل نجدها تعود بقوة تحت ظروف مؤثرة ومُحركة لها مثل العنصرية ضد هوية محددة، التهميش، الحرب، خطاب الكراهية، العدوانية وغير ذلك من عوامل مشابهة.


وها نحن اليوم أمام هويات مهشّمة، يمعظمها، ففي ظل هذا المراحل والأطر المتعاقبة تبدو الهوية العربية عموماً والهوية السورية خصوصاً في إطار ضبابي ينبئ بانتهاء مرحلة زمنية تنازعتها عقود طويلة من القمقمة والجمود تحت وطأة حكومات قمعية استبدادية، وزادتها شعارات البعث انحرافاً، بعيداً عن بعدها الإنساني الممتد في الزمان والمكان والمتأصل في الإرث المعرفي والقيّمي للبشرية. لتتزايد تواتراً صفات تصف واقع القاع الذي أُوقِعنا به عمداً ولم نُسعف ذواتنا طوعاً، كسلاً وجهلاً. من هذه الصفات الإرهاب، التشبيح، الارتزاق، العمالة، العنصرية، الشوفينية، الانفصالية، الفساد، الهمجية. ولائحة تطول عما تتسع له سطور هذا المقال، ترسم ملامح انخماد حقبة وبزوغ ملامح عتبة انتقالية تعبر بنا فوق هوة الاندثار.


فمنذ فجر وبداية البشرية والقاعدة ثابتة، فالحضارات في ديناميكية وتفاعل، لكن أدوات وآليات وعوامل هذه الديناميكية، كأي عوامل مرتبطة بالحياة بعيدة عن أن تكون بسيطة وثابتة بل هي مركبة ومتغيرة، مما يجعل نظرة ونظرية المؤرخين للحضارات بكونها امبراطوريات قائمة على دورة تطور بين القوة والانهيار نظرة مبسطة وبعيدة عن واقع وحركية الحياة البشرية ويضعها بمواجهة المفهوم الحديث للحضارة وفق الانثروبولوجية والتي تتبنى مفهوم الحضارة الثقافي والقائمة على مختلف الحوامل الثقافية من لغة وفنون ونمط الحياة والمعتقدات والقيم والمحيط المكاني وكيفية التفاعل معه، فتتضمن بذلك الهوية بمختلف محاورها المُشار لها سابقاً وعلى عكس مفهوم الحضارة القائم على القوة، والذي ينتهي بانتهاء هذه القوة، فان مفهوم الحضارة القائم على الثقافة مستمر طالما هذه الثقافة حية ومستمرة.


فهل يكون مفتاح المرحلة الانتقالية هذه هو استنادنا على هذه الهوية القائمة والمرتبطة بحوض جغرافي؟ احتضن واستوفى شروط الحياة لحضارات عديدة منذ ما يزيد عن خمسة آلاف عام زالت معالم قوتها واستمرت معالم ثقافتها حية تستحق من أبنائها التمسك بها ومنها الثقافة العربية، في طور ضعف اليوم يميل كثيرون للتبرؤ مما يربطهم بها من صفات انحدار وتقهقر ويسعون للنأي بأنفسهم عن هوياتهم، لكنها طرق مسدودة.


يذّكرنا آرنولد توينبي بنظرته الداروينية بأن التحدي هو من يخلق الفعل الحضاري وإن كانت الاستجابة أكبر من التحدي فتنشأ الحضارة أو تستمر وتوحد المجموع لبناء حضارة جديدة، ونحن اليوم بمواجهة بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية انحدرت بحضارتنا وهوية تهشمت فهل من تحدي أكبر من غيرة الإنسان على هويته يدفعه لخلق مسار صاعد لإعادة مكانتها وضمان تجددها واستمراريتها؟


لكن لهذا المسار متطلبات من امتلاك الرغبة للاستجابة لهذا التحدي وامتلاك القدرات من فكر ومنهج عمل ورؤية لمواجهة هذا التحدي، وأخيراً امتلاك أهم عامل وهو نبذ أسباب الانهيار والتمسك بما يبني لثقافة منفتحة مع تعددية الحضارات المحلية التي نشأت على هذه الأرض ذاتها، ومع تعددية الثقافات العالمية وتكاملها وغناها، أما البديل فهو أن نسمع لمن يعتقد بأن لا مستقبل لنا إلا بين هوية الإرهاب الديني والإرهاب السلطوي وأن نرتضي بسماع هذه الصفات التي تنهال على شعوبنا ونبتلع غضبنا ولا نحوله لطاقة إبداع هوية تُشبهنا، نحنُ المؤمنون بأننا لم نندثر وإنما نعبر فقط والعبور ليس بالأمر اليسير ويحتاج لجسور صلبة فهل نكون على قدر المسؤولية.


عضو اللجنة الدستورية السورية، باحثة في الانثروبولوجيا

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!